السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

عالم ما بعد كورونا.. أزمة هوية للعولمة و"سباق تسلح" في التكنولوجيا الحيوية

منذ الانتشار الوبائي لفيروس كورونا في كل أرجاء المعمورة وتخطي عدد الضحايا شرقاً وغرباً حاجز الربع مليون شخص، ولجوء الدول إلى إجراءات الإغلاق داخلياً وخارجياً، تطفو على السطح العديد من التساؤلات حول على مستقبل العالم والعلاقات بين الدول ونظام العولمة الذي توغل في حياة المجتمعات على مدى الـ30 عاماً الماضية؟ وما هو شكل التعاون الدولي لمرحلة ما بعد الوباء؟ هل سيزداد الانفتاح أم ستتجه الدول إلى مزيد من الانكفاء؟ هل سيصبح عالمنا أفضل أم أسوأ؟

ماي أوبا أستاذ العلاقات الدولية في جامعة طوكيو، تقول إن صعود النظام الدولي الليبرالي كان عاملاً رئيسياً في الحركة المتنامية للناس عبر الحدود، سواء لأغراض التجارة، والتمويل الدولي وتدفق الأموال، والعمالة، والدراسة، أو السياحة. لكن هذه العولمة سمحت أيضاً بانتشار الفيروس التاجي في أنحاء العالم، وقد تكون مكافحة الفيروس في نهاية المطاف قوة فعالة لإبطال التأثيرات السيئة للعولمة.

وتضيف في تصريحات لـ«الرؤية» أن هناك وجهين لعملة العولمة؛ الجانب الإيجابي، حيث يخلق التدفق عبر الحدود للأشخاص والبضائع والأموال والمعلومات ثروة وفرص جديدة. وعلى الجانب السلبي، فهذا التدفق يمكن أن يؤدي إلى تفاقم التفاوتات العالمية، وتمكين الإرهاب الدولي والجرائم عبر الحدود، وكذلك انتشار سريع للأمراض والأوبئة.





وتوضح أن الانتشار السريع للأمراض ظهر جلياً مع تفشي «سارس» عام 2003، ولكن بالمقارنة مع بداية هذا القرن، ازدادت حركة الناس عبر الحدود بشكل كبير، وكانت سرعة انتشار كورونا مختلفة تماماً.

وتقول الدكتورة ماي إن جائحة الفيروس التاجي لها تداعيات مدمرة على الشركات التي استفادت من الترابط الاقتصادي المدعوم بسلاسل التوريد عبر الحدود. والصين هي أكبر قاعدة إنتاج في العالم، تضررت بشدة منذ اندلاع الأزمة، وتضررت معها العديد من الشركات التي أصبحت تعتمد على الصين بشدة.

محمد القرماني، الأستاذ المساعد في السياسات العامة بجامعة أوريغون بالولايات المتحدة، يرى أنه من المبكر التنبؤ بتأثير محدد وواضح لأزمة كورونا على العلاقات الاقتصادية الدولية فالاقتصاد العالمي متشابك والعلاقات التجارية متشعبة بصورة كبيرة، لكن الذي لا شك فيه أن التأثير لم يسبق له مثيل.

ويتفق قرماني مع ماي في تضرر حركة التجارة العالمية بشدة، لكنه يتوقع أن تعاود التجارة العالمية نشاطها وخاصة فيما يتعلق بتجارة السلع الأساسية مثل الغذاء والمنتجات الزراعية والبترول والأجهزة الطبية والأدوية، وذلك على المدى المتوسط، لكن ذلك وفق رأيه مرتبط بحالة انحسار الوباء وقدرة الدول على محاصرة معدلات التفشي.



المحلي يكسب

وتشير أستاذ العلاقات الدولية بجامعة طوكيو إلى أنه من منظور تحليل المخاطر، يمكننا على الأقل أن نرى اتجاهاً سريعاً نحو الانتقال من قواعد الإنتاج المتفرقة عالمياً لصالح المرافق المحلية. مثلاً في قطاع السياحة قد يضطر الكثيرون في هذه الصناعة إلى البدء في العمل على مبادرات لزيادة الطلب المحلي.

وتتوقع ماي أن تصبح الحدود الوطنية أكثر تشدداً من حيث الصناعة وحركة الناس عند مقارنتها مع 30 عاماً من العولمة التي بدت جلية منذ نهاية الحرب الباردة، مع خطوط أكثر حدة مرسومة بين المحلي والأجنبي والابتعاد عن الاعتماد على العلاقات الدولية.

وتعتقد ماي أن الشواهد خلال السنوات الماضية قبل أزمة كورونا تؤيد هذا الاتجاه حيث ظهر ذلك في سياسة الولايات المتحدة منذ مجيء الرئيس دونالد ترامب رافعاً شعار «أمريكا أولاً»، كما أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتنامي المشاعر المعادية للأجانب في أوروبا بشكل عام يدلل على ذلك، وفي آسيا هناك صعود للمشاعر القومية تمثلت في القمع المتزايد للأويغور والأقليات الأخرى ومحاولات منع التدفق الحر للمعلومات في الصين أو في صعود القومية الهندوسية في الهند.

هذه الاتجاهات، المتمثلة في حدود أقل انفتاحاً وتزايد القومية -انضم إليها الآن إغلاق الحدود بشكل كامل بسبب انتشار الفيروس التاجي. وقد تكون النتيجة تحركاً نحو عالم مغلق أكثر، عالم تحد فيه الحدود الوطنية من نطاق النشاط الاجتماعي.



تزايد الشك

وبحسب خبراء الاجتماع فإن الأوبئة ليست مجرد مآس تتعلق بالمرض والموت فقط، لكن وجود مثل هذه التهديدات واسعة النطاق، وعدم اليقين والخوف المصاحب لها، يؤديان إلى سلوكيات ومعتقدات جديدة، حيث يصبح الناس أكثر تشككاً، وأقل رغبة في التعامل مع أي شيء يبدو غريباً أو أجنبياً.

أستاذ العلاقات الدولية بجامعة طوكيو، قالت إن التحدي الآن هو في أخذ النظام الدولي الليبرالي في اتجاه صحي من خلال تنظيم وتخفيف أعباء العولمة، لكنها شددت على أن الواقع سيتطلب تعاوناً دولياً أقوى.

واختتمت حديثها للرؤية بالقول: «لقد خلق تهديد الفيروس التاجي وضعاً استثنائياً، ولكن بمجرد أن نتعافى، من المهم أن ننشئ آليات للاستجابة للمرض من خلال التعاون الدولي الفعال، دون الوقوع ضحية للنظرة العرقية الضيقة التي ربما تتغلب في النهاية.

وشددت على أن العالم سيحتاج إلى العمل من أجل القضاء على مشاكل مثل التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي تسببها العولمة. وفي حال فشلنا في ذلك قد نرى البلدان تتجه نحو الداخل بشكل متزايد مع هذه العقلية القومية الضيقة.

القرماني في تصريحاته لـ«الرؤية» يرى أنه على المدى البعيد «١٠ سنوات وأكثر» قد تكون الأزمة دافعاً لمزيد من الاعتماد على الذات وتقييد الحدود ومحفزاً للدول على الاستثمار في بعض الصناعات الاستراتيجية مثل الأدوية واللقاحات والأجهزة الطبية وإن كانت بالطبع هذه الصناعات معقدة وتحتاج لاستثمارات هائلة وتراكم خبرات كبير في مجالي التكنولوجيا والتعليم، وهو ما قد يدفع نحو المزيد من التعاون الدولي في هذه المجالات تحديداً على الرغم من تنامي النزعة المحلية مع انتشار الوباء.



انفتاح علمي

الباحث الأمريكي المتخصص في علم الفيروسات، إبجاد ماديش، يرى أن وباء الفيروس التاجي أزمة رهيبة، لكنه في نفس الوقت يوفر فرصة لتغيير طريقة إجراء البحث ومشاركته، حتى يصبح العلم أكثر انفتاحاً وأكثر كفاءة وتعاوناً.

ويقول الباحث الأمريكي مؤسس شبكة البحث العلمي «ريسيرش جيت» التي تضم في عضويتها أكثر من 13 مليوناً حول العالم إن الشبكة هدفها التحول إلى عالم أفضل من خلال الوصول إلى اختراقات علمية، الآن وفي المستقبل.

وأضاف أن الطريقة التي يستجيب بها الباحثون لـوباء «كوفيد-19» في الوقت الحالي يمكن أن تكون بمثابة مخطط لذلك المستقبل. العلماء الذين ينشرون البيانات والأفكار والمعلومات المتعلقة بجائحة الفيروسات التاجية على موقع الشبكة، على سبيل المثال، يدفعون ضد الأنماط القديمة للثقافة العلمية، بحسب مقال نشره على موقع أمريكان ساينس.



مجال جديد لسباق التسلح

صحيفة نيويورك تايمز، أكدت على هذا الجانب الإيجابي لفيروس كورونا أيضاً، وقالت في تقرير مطول إنه بينما أغلق الزعماء السياسيون حدود دولهم، كان العلماء يحطمون حدودهم، مما يخلق تعاوناً عالمياً لا مثيل له في التاريخ. لم يحدث من قبل، كما يقول الباحثون، أن يكون هناك الكثير من الخبراء في العديد من البلدان يركزون في وقت واحد على موضوع واحد وبهذه الاستعجال، حيث وقفت كل البحوث الأخرى تقريباً.

وأضافت الصحيفة أنه تم وضع الضرورات العادية مثل الائتمان الأكاديمي والملكية الفكرية جانباً. ووفرت حاضنات الأبحاث عبر الإنترنت الدراسات قبل أشهر من المجلات العلمية. حدد الباحثون مئات التسلسلات الجينومية الفيروسية وشاركوها. تم إطلاق أكثر من 200 تجربة سريرية، جمعت بين المستشفيات والمختبرات حول العالم.

وقالت الصحيفة إن الصراع السياسي القائم بين الصين والولايات المتحدة ليس في صالح أحد، مشيرة إلى أن التوجه نحو التغطية واستخدام البحث كضرورية وطنية في الصراع بين بكين وواشنطن يهدد بسباق تسلح في مجال التكنولوجيا الحيوية.

ونقلت الصحيفة عن الدكتور فرانشيسكو بيروني، الذي يقود تجربة سريرية لفيروس كورونا في إيطاليا رفضه لهذا التوجه قائلاً: «لم أسمع أبداً عن علماء -علماء حقيقيين، علماء جيدين- يتحدثون من منطلق الجنسية: بلدي، بلدك لغتي، لغتك، موقعي الجغرافي، موقعك الجغرافي.. هذا شيء بعيد حقاً عن العلماء ذوي المكانة العلمية الحقيقيين».

وقالت الصحيفة إن العلماء يرون أن شعار أمريكا أولاً ليس له مكان في مجال البحث العلمي وخاصة في ظل أزمة مثل كورونا.

واستشهدت الصحيفة بتغريدة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب قال فيها بلا خجل حسب وصفها: «أمريكا هي أعظم دولة في العالم. لدينا أفضل العلماء والأطباء والممرضين والمتخصصين في الرعاية الصحية. إنهم أناس رائعون يقومون بأشياء استثنائية كل يوم. ستفعلها أمريكا."

وأوضحت الصحيفة الأمريكية أن وضع ملصق «صنع في أمريكا» على البحث العلمي أمر صعب ومعقد، فعلى سبيل المثال يتعاون مختبر الدكتور دوبريكس في بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا مع معهد باستور في باريس وشركة الأدوية النمساوية بيوساينس.

وحصل هذا الكونسورتيوم على تمويل من الائتلاف من أجل ابتكار التأهب للوباء، وهي منظمة تتخذ من النرويج مقراً لها وتمولها مؤسسة بيل وميليندا غيتس ومجموعة من الحكومات، وهي تجري محادثات مع معهد المصل بالهند، أحد أكبر مصنعي اللقاحات في العالم.

استجابة عالمية

وتعكس استجابة الفيروس التاجي بوضوح عالمية المجتمع الطبي منذ فترة طويلة. في مستشفى ماساتشوستس العام، يقوم فريق من أطباء هارفارد باختبار فعالية أكسيد النيتريك المستنشق على مرضى الفيروس التاجي. يُجرى البحث بالتعاون مع مستشفى سينغ في الصين واثنين من مستشفيات شمال إيطاليا، والأطباء في تلك المراكز يتعاونون منذ سنوات.

في 30 مارس الماضي استضافت منظمة التربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» اجتماعاً عبر الإنترنت لممثلي الوزارات المسؤولة عن العلوم في جميع أنحاء العالم.

وبحسب موقع المنظمة التابعة للأمم المتحدة، ضم الاجتماع 77 وزيراً، بمن فيهم الأمناء الحكوميون الذين يمثلون ما مجموعه 122 دولة، وكذلك ماريا غابرييل، المفوضة الأوروبية للابتكار والبحوث والثقافة والتعليم والشباب، وسارة أنيانغ أجبور، ومفوض الاتحاد الأفريقي للموارد البشرية والعلوم والتكنولوجيا، موسيس عمر، ونائب رئيس نيكاراغوا السابق والدكتورة سمية سواميناثان، كبيرة العلماء بمنظمة الصحة العالمية.

كان الهدف من الاجتماع، بحسب اليونسكو، هو تبادل وجهات النظر حول دور التعاون الدولي في العلوم وزيادة الاستثمار في البحث العلمي لمواجهة الوباء.

كانت القضية الرئيسية للاجتماعة هو إتاحة العلوم، وهي القضية التي تعمل اليونسكو من أجل طرحها كموضوع رئيس للنقاش منذ نوفمبر 2019.