الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

عشية التنصيب.. أمريكا في مفترق طرق

على بعد ساعات قليلة من حفل تنصيب الرئيس الأمريكي الـ46، جوزيف بايدن، رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، تبدو الدولة -الإمبراطورية العظمى- أمام استحقاقات لتساؤلات جوهرية وجذرية، في غالب الأمر لن تحدد أفق سياسات إدارة بايدن الأولى فحسب، بل ربما تتجاوزها إلى مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية وما يعتريها من تطورات مثيرة في قادم الأيام.

مخاوف يوم التنصيب

يمكن البداية من حفل التنصيب نفسه، وكل الأمل والدعاء للولايات المتحدة ولشعبها ولحكومة الرئيس بايدن، أن يبدأ الحدث التاريخي وينتهي بخير، ومن غير ضرر يتصل بالبشر أو بالحجر.

ولعله من المصارحة والمكاشفة القول إن هناك مخاوف جذرية حقيقية تحلق في سماوات الحدث الأمريكي الأهم، وهذا هو مرد تأجيل التدريبات التي كانت مقررة نهار الأحد 17 يناير الجاري لحفل التنصيب، والخوف من أن يتكرر سيناريو «غزوة الكونغرس» الأخيرة، والتي رسمت علامات استفهام مقلقة حول الأوضاع الأمنية في الداخل الأمريكي.

والمؤكد أنه على الرغم من إغلاق واشنطن تماماً، وإعلان الطوارئ في العاصمة، وإرسال أكثر من 20 ألفاً من الحرس الوطني لتأمين الحدث الكبير، إلا أن إحساس الخطر يبقى قائماً وقادماً، لا سيما وأن التصريحات التي تخرج كل ساعة من أجهزة المباحث الاتحادية ورجالات الشرطة السرية، تفتح الباب واسعاً لما يتجاوز واشنطن، إلى غيرها من المدن الأمريكية الكبرى، وبعض تلك التقارير الأمنية تحدث عن مخطط واسع وكبير، لحدوث شغب وعنف في الولايات الـ50، الأمر الذي يمكن أن ينقل الإشكالية من مجرد احتجاج على نتيجة انتخابات، إلى ما يشبه التمرد أو الانقلاب على النظام الأمريكي القائم بأسره.

مكايدة سياسية

سؤال آخر ينبغي التوقف أمامه: هل كانت القيادات السياسية الأمريكية، لا سيما الديمقراطية، على درجة من الحكمة والتعقل الأسبوع الماضي في تعاطيها مع الأوضاع الأمريكية الداخلية المرتبكة؟

المؤكد أن الذين تابعوا ما جرى في مجلس النواب الأمريكي، وتحديداً موقف رئيسته السيدة نانسي بيلوسي، يدرك أن روح المكايدة السياسية كانت هي البادية بقوة، والكراهية السياسية من قبلها للرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب هي الحاكمة.

نعم أخطأ الرئيس ترامب في التعاطي، حين ناشد الجماهير الاعتراض، لكن رد بيلوسي لم يفسح المجال لتهدئة المشاعر المحتقنة وإنما زادها ارتباكاً من خلال العزل الثاني، الأمر الذي لم يحدث في تاريخ الولايات المتحدة، مع أي رئيس من قبل، حتى وإن كان الديمقراطيون يدركون أنه إجراء شكلي لا فائدة ترجى منه، ولا طائل يحدث من ورائه.

ومن ضمن الأسئلة التي تستدعي تفكيراً أمريكياً داخلياً طارئاً، ذاك المتعلق بمدى العلاقة بين الرئيس ترامب والجماعات التي تؤمن بالعنف، وهي على فريقين، من أقصى اليمين المتطرف، وعلى الجانب الآخر اليسار الراديكالي المتشدد، والسؤال: هل ترامب هو المسؤول الأول والأخير عن نشوء وارتقاء هذه وتلك؟

يحمل التساؤل في طياته محاولة تعميق البحث، ومحاولة استكشاف ماذا بعد ترامب، وهل رحيله يعني نهاية زمن الشعبوية والترامبية الأمريكية أم أن الأوضاع ربما ستتفاقم إلى ما هو أسوأ؟

جواب الأسئلة الحائرة الأخيرة يتلخص في القول إن الجذور اليمينية الأمريكية كانت قائمة قبل ترامب بكثير، وستنمو من بعده أكثر إن لم يتم تغيير دفة الكثير من المقدرات السياسية في البلاد، وهذه مهمة شاقة وعسيرة ويخشى الكثير من حكماء أمريكا ومن علماء الاجتماع حول العالم أن يكون أوانها قد فات.

بايدن ومهمة توحيد أمريكا

يتوقف المرء عشية التنصيب مع شخص الرئيس، والذي عادة ما يتوجب عليه الترفع عن الرؤية الحزبية الضيقة، والتخلي عن الاعتبارات الأيديولوجية المتباينة، فهو حجر الزاوية في البناء الحكومي الأمريكي، وهل يمكن لبايدن أن يكون الموحد من جديد؟

هناك أمران يجب أن نأخذهما بعين الاعتبار؛ الأول هو موقفه من ترامب الأيام الأخيرة الماضية، وهذا لم يكن مشجعاً على التئام جروح الأمريكيين، لا سيما تأكيدات بايدن ضرورة محاكمة ترامب جراء ما اقترفته يداه، ما عمق من مشاعر الغضب عند أكثر من 75 مليون مؤيد له.

الثاني يعتبر تقدماً إيجابياً بصورة أو بأخرى، فقد ناشد بايدن مجلس الشيوخ ألا يوجه كل اهتمامه في أيامه الأولى إلى محاكمة ترامب، بقدر متابعة القضايا المصيرية للبلاد والعباد، وفي المقدمة منها مواجهة فيروس كوفيد-19 والذي أحدث بالداخل الأمريكي خسائر لم توقعها الحروب العالمية، ثم الاقتصاد الذي تعرض لضربات قاصمة، عطفاً على مواجهة صورة أمريكا في الخارج، بجانب -وهذا أمر حيوي- متابعة التحديات الأمريكية على خريطة الكرة الأرضية، ومواجهة الأقطاب الحالمة بملء مربعات النفوذ الأمريكي حول العالم.

تبدو أمريكا اليوم أمة في مواجهة أخطار عديدة، ويمكننا أن نشير إلى المزيد منها؛ مثل قضية التحولات الديمغرافية والعرقية، وهي أصل الاضطرابات التي قد تجعل من يوم تنصيب بايدن تاريخاً مفصلياً، لا سيما وأن أصوات أمريكية عديدة أنذرت وحذرت من أن بايدن قد يكون آخر رئيس أبيض في تاريخ البلاد، بعدما تبدلت موازين السكان وأعداد المواليد، وهذا قد يفسر لنا سر تعاطي ترامب مع المهاجرين من أمريكا الجنوبية، وبعيداً عن مبررات الهجرة غير الشرعية والجريمة والمخدرات، فالخوف الأكبر هو أن يصحو الرجل الأبيض خلال عقدين من الزمن ليجد نفسه أقلية.

خطاب بايدن المنتظر

وينتظر العالم عامة، والأمريكيون خاصة، خطاب بايدن، ليعرفوا منه إلى أي اتجاه ستقلع سفن أمريكا حول العالم، ومدى التغيرات الجيوسياسية التي سيرسمها خطابه تجاه الصين وروسيا الاتحادية بنوع خاص.

وفي الأثناء يتطلع أبناء الشرق الأوسط ودول العالم العربي إلى معرفة بوصلة ساكن البيت الأبيض تجاه قضاياهم وتعقيداتها ورؤيته للسلام الإبراهيمي ومتابعته، ولأزمة إيران وكيفية الخلاص منها، وللإرهاب والتعاطي معه، ناهيك عن جماعات الإسلام السياسي وكيف ستكون مسيرة بايدن تجاهها.

تبدو أمريكا في مشهد غير مسبوق، وتحديات جسام، ومخاوف مربكة.. نسأل الله السلامة من جديد للجميع، فلا تزال الولايات المتحدة الأمريكية وازنة عالمياً مهما اتفقنا معها أو افترقنا عنها.