الاثنين - 29 أبريل 2024
الاثنين - 29 أبريل 2024

هل يخشى الكرملين «صمت الأمهات»؟

هل يخشى الكرملين «صمت الأمهات»؟

(أرشيفية)

أثناء الحرب السوفيتية في أفغانستان في ثمانينيات القرن العشرين، كان الجنود السوفيت القتلى يعودون إلى بلادهم في صناديق معدنية لا تحمل سوى عبارة تقول «قُتل أثناء أداء الواجب الوطني»، لكن أمهات الجنود رفضن الاستسلام لمنطق الصمت ونظمن حملات أجبرت الجيش الروسي على الكشف عن حوادث الموت والإصابة بين الجنود.

مرت الأيام وجاءت الحرب الروسية في الشيشان، ونظمت أمهات الجنود مظاهرات في عاصمة الجمهورية جروزني للمطالبة بعودة أبنائهن إلى الديار بصحبتهن.. والآن يبدو أن التاريخ سيعيد نفسه وسيجد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه أمام موجة غضب قوية من جانب أمهات الجنود الروس الذين يحاربون في أوكرانيا.

تقول الكاتبة الأمريكية كلارا فيريرا ماركيز، في تحقيق نشرته وكالة بلومبيرغ للأنباء، إن آلة دعاية بوتين قد روجت على مدى سنوات حكمه لصورة الدولة القوية التي يقودها زعيم لا يقهر، ولديه جيش منضبط يحيط به الأعداء من كل جانب ويقاتل من أجل مستقبل الوطن الأم، وهو ما يتناقض حالياً مع ما يجري في أوكرانيا.

تحولت ما كان يفترض أن تكون حرباً خاطفة إلى حرب استنزاف باهظة الكُلفة، وهناك صور الجنود الروس الذين قتلوا في المعركة والمعلقة على جدران الحوائط في المدن الروسية وتحتها عبارة «بطل النصر».

كما يردد الإعلام الروسي شعار «نحن لا نترك أحداً من شعبنا خلفنا» رغم أن القوات المسلحة الروسية تفعل ذلك باستمرار وتترك جثث الجنود الروس القتلى إما في الوحل أو في المشارح الأوكرانية المؤقتة، بحسب الكاتبة.

هناك حقيقة واحدة سيعاني بوتين نفسه في إخفائها وهي هؤلاء الرجال الذين يعودون قتلى إلى الوطن، فهناك شريحة لا يمكن للسلطة مهما حاولت أن تحاصرها أو تعزلها عن المجتمع وهي أمهات وزوجات وبنات الجنود، خاصة مع تزايد الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها العائلات الروسية على خلفية الصراع.

أدى غضب الأمهات والزوجات والبنات في الماضي إلى استنفار الرأي العام الروسي، مرة ضد الحرب في أفغانستان وأخرى ضد الحرب في الشيشان، وحتى عندما غرقت الغواصة الروسية كورسك وعلى متنها 118 فرداً في عام 2000.

خسائر روسيا في أوكرانيا تتزايد، وإن كانت بوتيرة أبطأ مقارنة بكوارث الأيام الأولى للصراع. كما أن البيانات الأوكرانية مبالغ فيها بشدة حيث تتحدث عن مقتل 30 ألف عسكري روسي، لكن حتى إذا كان الرقم الصحيح هو نصف هذا الرقم فإنه سيكون قريباً من الخسائر الرسمية التي أعلنها الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب في أفغانستان التي استمرت نحو 10 سنوات.

وتقول ماركيز إن قدرة الأمهات على الضغط على الجيش من أجل المزيد من الشفافية بشأن الحرب في أفغانستان في أواخر الثمانينيات، وتأثيرهن خلال الحرب في الشيشان خلال التسعينيات، بل وحتى أثناء كارثة الغواصة كورسك، ارتبطت بالحرية الإعلامية والسياسية النسبية في ذلك الوقت.. لكن مع نجاح الرئيس بوتين في إحكام قبضته على الإعلام والحياة السياسية، أصبح دور الأمهات للتأثير على القرار السياسي بشأن الحرب في أوكرانيا أصعب، خاصة في ظل الرسالة الرسمية التي تمجد الضحايا مع السيطرة على الإعلام وعدم التسامح مع أي نوع من الاحتجاجات الشعبية.

كما تشير جولناز شارافوتينوفا، الباحثة في كينجز كوليدج بلندن، إلى أنه على عكس الحال أثناء الحرب في أفغانستان أو حرب الشيشان الأولى، عندما كان المجتمع الروسي يتمتع بقدر أكبر من المساواة، وكانت كل العائلات متضررة من الحرب، فإن أغلب ضحايا الصراع الدائر في أوكرانيا ليسوا من المجندين وإنما من المتعاقدين من أبناء الأقليات والفئات المهمشة والمناطق النائية الذين التحقوا بالجيش هرباً من الفقر، وبالتالي لا يتمتعون ولا عائلاتهم بأي ثقل سياسي.

وهناك حقيقة بسيطة أخرى وهي أن الموت البطولي للجنود القتلى يسهل على عائلاتهم قبول الموت وهو ما يجعل هذه العائلات أكثر استعداداً لتقبل الرواية الرسمية حتى لو كانت تتعارض مع تجاربها المباشرة، وعندما أصدرت الكاتبة السوفيتية الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب سيفتلانا ألكسفيتش المولودة في أوكرانيا عام 1948 كتابها الشهير عن الجنود في الحرب السوفيتية في أفغانستان وعائلاتهم تحت عنوان «أولاد في الزنك» إشارة إلى التوابيت التي عادت فيها جثثهم، تعرضت للتهديد، وفي ما بعد، أقامت بعض أسر الجنود دعاوى قضائية ضدها، وأثناء جلسات المحاكمة حضرت بعض الأمهات ومعهن صور أبنائهن القتلى مع ميداليات وشارات الأبناء، بحسب ما كتبته ألكسفيتش في ما بعد، وأضافت أن الأمهات قلن لها: «لا نحتاج إلى حقيقتك، لدينا حقيقتنا الخاصة».

لكن السيطرة على غضب الأمهات والعائلات لن يدوم طويلاً، خاصة مع تزايد أعداد القتلى الروس، وستزداد الخطورة مع غرق كل طراد من البحرية الروسية أو تعرض فوج من المظليين الروس لخسائر كبيرة، خاصة في ظل استمرار غموض هدف الصراع في أوكرانيا.

في المقابل، فإن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يتواصل مباشرة مع الأمهات الروس، وقد أنشأت الحكومة الأوكرانية خط هاتف ساخناً، وقناة عبر تطبيق تيليغرام، وموقع إنترنت لنشر صور الجنود الروس الأسرى لخدمة عائلات الروس التي تبحث عن أبنائها المفقودين في الحرب.

اقرأ أيضاً.. سريلانكا تحث شعبها على الصبر.. ودعوات أممية للإغاثة

وفي حين كان بوتين يصر في بداية الحرب التي قال إنها لن تزيد على ثلاثة أيام، على أنه لا يوجد جنود نظاميون روس يشاركون في القتال على أراضي أوكرانيا، فإنه الآن يواجه خطر الاضطرار إلى ذلك، بعد أن خفض الحد الأدنى لسن الشباب الذين يمكنهم التعاقد مع الجيش الروسي للمشاركة في القتال بأوكرانيا، واحتمالات اللجوء إلى أفراد الاحتياط وجنود التجنيد الإجباري لمواجهة الخسائر الكبيرة في صفوف قواته.

أخيراً، هناك تركيز من جانب بوتين على النساء كأمهات، في ظل معاناة روسيا من انكماش عدد سكانها، لذلك سعى إلى إعادة اللقب السوفيتي «الأم البطلة» لتكريم النساء اللائي ينجبن عدداً كبيراً من الأطفال، لكن سيكون من الصعب على هؤلاء قبول التكريم ثم الصمت على خسارة أبنائهن.