الخميس - 02 مايو 2024
الخميس - 02 مايو 2024

رائد الفضاء باولو نسبولي لـ «الرؤية»: طعام الفضاء «مروع».. وتجربة انعدام الجاذبية «مؤلمة»

رائد الفضاء باولو نسبولي لـ «الرؤية»: طعام الفضاء «مروع».. وتجربة انعدام الجاذبية «مؤلمة»

باولو نسبولي

لم يكن باولو نسبولي يتصور أن المطاف سينتهي به إلى الفضاء، فرغم شغفه المُبكر بالسماء، إلا أن حياته لم تُكن بالسهولة التي تُمكنه من تحقيق الحلم، كان دربه عسيراً، وطريقه ممتلئاً بالصعوبات، ومنذ أن كان طفلاً، أمسى مفتوناً بصور هؤلاء الرواد القادمين من السماء معتمرين خوذاتهم اللامعة، وملابسهم الثقيلة ذات الطراز الغريب، كان حلمه أن يُصبح رائداً حين يكبر، وعندما وصل لعمر العشرين تبخر الحلم، إذ التحق بالجيش، وبعد أن حصل على درجة علمية في هندسة الطيران، تم اختياره للانضمام إلى وحدة القوات الخاصة.

شعر نسبولي بنوع من الرضا حين كان يرتدي مظلته ويقفز بها من على ارتفاعات شاهقة ضمن التدريبات العسكرية، إلا أن حلم الخروج من غلاف الأرض الجوي ظل مسيطراً.

أثناء عمله بالجيش، ذهب إلى لبنان إبان الاضطرابات، واستقر به المطاف في تلك الدولة العربية لنحو عامين، وقبل نهاية عقده الرابع؛ التقى بالصحافية الإيطالية الشهيرة أوريانا فالاشي، وأثناء حديث عادي حول الأحلام المستحيلة، أطلعها على الحلم القديم، فنصحته أن يُحاول تحقيق حلمه، رغم تقدمه في العمر.


كان نسبولي يعلم أن فرص الذهاب للفضاء أصبحت في حكم المستحيل، إلا أن ذلك الاعتقاد لم يمنعه من التقدم للالتحاق بوكالة الفضاء الأوروبية.


بعد شهور، تواصل أحد العاملين في الوكالة مع نسبولي ليخبره أن طلبه قُوبل بالموافقة، تصاعدت الأماني في نفس الإيطالي بعد أن كانت قد تداعت، وداعب الحُلم الجميل عقله بعد أن تبخر طيلة سنوات الصبا والشباب.

وبعد نحو 10 سنوات على انضمامه للتدريب ضمن فريق وكالة الفضاء الأوربية، تم اختياره للسفر إلى محطة الفضاء الدولية، ضمن بعثة ستقضى العديد من الأيام على متن المعمل الذي يدور حول الأرض على ارتفاع يبلغ نحو 400 كيلومتر. وبعد سنة أخرى من رجوعه؛ عاد إلى المحطة مرة أخرى عام 2011، ثم تبعها بمرة ثالثة وأخيرة عام 2017، ليصبح مجموع أيام أحلامه 313 يوماً؛ قضاها في وسط منعدم الجاذبية، على ارتفاع شاهق، شاهد فيه كوكبنا الأزرق بنظرة أخرى، نظرة الحالم .. والمحب والعالِم.

«الرؤية» حاورت رائد الفضاء الإيطالي «باولو نسبولي» حول الأحلام والآمال والأمل والطموح.. والعلم.. فكان هذا الحوار:

* كيف أثرت نشأتك المبكرة على حياتك المهنية الحالية؟

ولدت في ميلانو، المدينة الكبيرة الصاخبة، ثم انتقلت عائلتي إلى قرية صغيرة تتسع لنحو 8000 شخص فقط، درست في مدرسة حكومية كمعظم أصدقائي، ثم تم تجنيدي من قبل الجيش، طبقًا للقانون السائد في ذلك الزمان والذي كان يفرض التجنيد لمدة عام على الأقل على الشبان الذين بلغوا 20 عاماً. حين انخرطت في الجيش أعجبتني تجربة القفز بالمظلات فقررت البقاء. تعلمت النظام، والتخطيط، والتصرف في مواجهة الشدائد، تم إرسالي مع قوة حفظ السلام الدولية إلى لبنان؛ في توقيت كان يُعانى فيه ذلك البلد من الجنون التام والفوضى الرهيبة، وحين قابلت الصحافية «أوريانا فالاشي» أخبرتني بضرورة السعي وراء الحلم، تعلمت الإنجليزية لأول مرة في عمر الـ 38، وحصلت على درجة علمية في هندسة الطيران في نفس العمر. كانت كلمات تلك الصحافية الراحلة بمثابة الضوء الذي أرشدني في حياتي. وصلت إلى ما أنا عليه الآن بفضل نصيحتها. تقدمت للعمل ضمن وكالة الفضاء الأوربية، ولحسن الحظ قاموا بقبولي. حياتي كانت معقدة، ويمكن أن تصفني رجل اللحظات الأخيرة.

* كيف كانت مشاعرك حين أبلغوك لأول مرة بقبولك ضمن طاقم العمل في الوكالة؟

شعرت بالدهشة والصدمة، الفرحة المختلطة بعدم التصديق، حتى حين أخبروني أن عمري لا يسمح بالذهاب للفضاء لأن التدريب يستغرق أعواماً كثيرة، قبلت العمل، وتدربت، وفي عمر الخمسين جاءت الفرصة، فرصة تحقيق الحلم والصعود على متن صاروخ للمحطة الفضائية الدولية.

* وما هي أعظم اللحظات في حياتك المهنية؟

تلك اللحظة التي سمعت فيها هدير محركات الصاروخ، حين شعرت بالاهتزازات القوية الناجمة عن احتراق مئات الغالونات من الوقود، في لحظة الانطلاق بسرعة 11 ألف كيلومتر في الساعة الواحدة أحسست أنني حر، سيطرت علي مشاعر الامتنان لكوني حياً في عالم استطعت فيه تحقيق الأحلام والقيام بما أحبه.

* ما الشيء الذي افتقدته خلال وجودك على متن المحطة الفضائية الدولية؟

الطعام الإيطالي، والقهوة الإيطالية، حين اتصل بي مركز المتابعة الأرضي وسألني إذا ما كان هناك أي شئ ينقصني قلت لهم أحضروا لي قطعة من البيتزا الإيطالية، وسألتهم إذا ما كانوا قادرين على تزويدي بها.

تتبدل الأحلام في الفضاء، نفتقد أشياءنا العادية، التي نظن أننا من فرط تعودنا عليها أصبحت غير مهمة، هناك نفتقد الاستحمام؛ والطعام الساخن الشهي، والمشي في الطرقات ومقابلة الأصدقاء، قيادة السيارات وركوب الحافلات، كل نشاط نفعله على الأرض نشعر بقيمته.

* ماذا عن اللحظة التي دخلت فيها المحطة الفضائية الدولية لأول مرة؟

شعرت أنني طفل يُشاهد عالم ديزني لأول مرة. انبهار غريب سيطر على كياني، ها أنا ذا؛ وسط كومة من الأجهزة العلمية باهظة الثمن ومعامل غاية في التطور على بعد 400 كيلومتر من سطح الأرض، ها هو كوكبي الأم ينظر إليّ، وأنظر أليه. أنا في المكان الذي حلمت به إبان طفولتي. أنا هنا في الفضاء حيث لا حدود للأحلام.

* ما هي الخاطرة التي وردت على ذهنك لأول مرة حين شاهدت الأرض من ذلك الارتفاع الشاهق؟

أننا ـ نحن البشر - وكوكبنا بقاراته ومحيطاته وبحاره، كيان واحد، من محطة الفضاء الدولية لا يُمكن أن تشاهد الحدود، ترى فقط عالماً كاملاً متوازناً في حالة من السكون والسلام، ترى الأرض كما وُجدت قبل أن يوجد عليها الإنسان، لا حروب ولا دمار، فقط السلام والجمال.

من الفضاء تعرف معنى أن يكون العالم متوحداً، رافقني في المحطة رواد من بلدان مختلفة، في تلك المساحة الصغيرة إذ لم نعمل سوياً يداً بيد فلن نصل إلى أي مكان، في تلك المساحة الصغيرة إذا لم نواصل الحركة بتنسيق وتناغم فلن ننجز أيّاً من المهام، في تلك المساحة الصغيرة لا وقت للفردانية، فقط التعاون المشترك.

أن لا توجد حدود، وأن تتوحد الجهود، مسعى يجب أن يكون على قمة أولويات القادة السياسيين في كل مكان وزمان.

* كيف ينام ويأكل ويشرب رواد الفضاء في ذلك الحيز الضيق الذي يتسع بالكاد لطاقم المحطة المكون من 6 أشخاص؟

الحقيقة أن الأولوية المطلقة هي للمختبرات، هناك وحدات للسكن ننام فيها بالطبع، في الفضاء لا يوجد اتجاهات، وبالتالي يُمكن النوم في أي وضع، الطعام مُروع، وذو مذاق سيئ للغاية، عبارة عن معاجين في أنابيب كريهة، وتوجد بالطبع مياه صالحة للشرب، لكن بحساب، حتى لا يضطر رائد الفضاء لإخراج الكثير من النفايات البشرية.

* ما هي المشاعر التي يختبرها الرواد أثناء وجودهم في المحطة الفضائية الدولية؟

تجربة السفر للفضاء فريدة في كل شيء، نُعيد فيها اكتشاف حواسنا، عيوننا تبصر على نحو مختلف؛ ولا نسمع سوى فحيح محركات المحطة في سرمدية الكون. حين نصعد إلى الفضاء نشعر بمدى ضآلتنا ـ كبشر ـ أمام ذلك الكون الفسيح، ونفتقد عالمنا الدافئ والمريح، نشعر بالانتماء إلى ذلك الكوكب، والحنين إلى الوطن، والرغبة في رؤية الأصدقاء، والبشر عمومًا.

* يواجه رواد الفضاء الكثير من المخاطر الصحية والنفسية.. ما السر وراء تلك الرغبة الدفينة لدى البشر والتي تدفعهم لمحاولة السفر للفضاء؟

الحقيقة أننا نخاطر بحياتنا كل يوم، حين نخرج من منزلنا في الصباح، وننزل على الدرج، تبدأ المخاطرة، هناك ملايين من البشر يموتون سنويًا في حوادث السيارات والقطارات والطائرات، إن المخاطر التي يتعرض لها رائد الفضاء لا تختلف كثيرًا عن تلك المخاطر التي يتعرض لها البشر العاديون، في الحقيقة هي أقل.

نحن نثق في العلم، نثق أن جدران مركبة الفضاء تحمينا تماماً، نثق في أصدقائنا وزملائنا الذين يتولون مهمة التصميم، ونثق أيضًا في الأشخاص الذين يتولون قيادة المركبة، حين ترتفع جدران الثقة بين ذواتنا والموجودات من حولنا يتلاشى الخوف، وتبقى الإثارة والشغف، وترتفع مستويات هرموناتنا لتجلب معها السعادة الكامنة وراء رغبتنا نحن البشر في الاستكشاف.

وما هو شعورك مع تجربة انعدام الجاذبية في الفضاء؟

الجاذبية هي القوة التي تشدنا للأرض، هي ما تكسب أجسادنا الشكل المعتاد، وحين تغيب تلك القوة؛ تتصرف أجسادنا بشكل مختلف، تضطرب دورتنا الدموية، وتضعف عضلاتنا، هي تجربة مؤلمة بكل ما تحويه الكلمة من معنى.

كيف يُمكن أن تُساعدنا أبحاث الفضاء على فهم كوكبنا؟

البحث العلمي من ضمن العناصر المهمة التي تسمح لنا باكتشاف أنفسنا، والعيش بطريقة أفضل في بيئتنا، والعمل في الفضاء يسمح لنا بتجربة أمور لا يُمكن أن نختبرها على الأرض، على سبيل المثال نكتشف تأثير الجاذبية في أجساد البشر، ونعمل على زيادة معارفنا بالطريقة التي تنمو بها المحاصيل، أو حتى رؤية الوسيلة التي تتكون بها الأعاصير المدمرة وموجات المد العاتية.

أمضيت 50 عاماً قبل أن تُحقق حلمك الخاص.. فترة طويلة شملت العديد من التجارب، ما هي النصيحة التي تقدمها للشباب؟

الخروج من الفقاعة الخاصة بهم، تلك الفقاعة التي تصنع حدود شفافة ترى من خلفها العالم ولا تستطيع التجاوب أو التعامل معه. أنصحهم باكتشاف الثقافات الأخرى؛ التعامل بانفتاح مع أفكار الآخرين، فهم التنوع، والتعلم، والسعي وراء الأحلام ومحاولة تحقيق الأماني بالعمل.