الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

غول «الحقيقة»

غول «الحقيقة»

منى الرئيسي

مؤلمة وممتعة في آن رحلة البحث عن الحقيقة.. وسط ما يشوبها من رعب ومخاوف إن أماطت اللثام لتقول للباحث عنها «ها أنا»..هل سيتقبلها بصدر رحب ويستبدلها بمسلمات كان يؤمن بها لسنوات طويلة؟.. وهل سيمتلك الجرأة لأن يذيعها ويدافع عنها أمام الملأ ويسير عكس الجماعة إن كانت تمس أعرافاً ومعتقدات؟ ..أم أن البشر مستعدون للإيمان بأي شيء ماعدا الحقيقة كما يقول الروائي الإسباني كارلوس زافون؟!

شعور البحث عما يسمى بالحقيقة هو أشبه بشعور ذلك الذي تستدعيه المحكمة ليدلي بشهادته .. فتراه مضطرباً مشتتاً متعرقاً رغم ثقته بما سيقول ومدى مطابقته لما يعتقد أنها الحقيقة وربما هي فعلاً فتتداخل لديه المشاعر ..هنا تماماً أتخيل مشهد ذلك الذي يلج المحكمة العليا الكندية ليصادف أولاً تمثال الحقيقة لروي والتر إلوارد، فيذكر القاضي والمحامي وهيئة الدفاع وشهود العيان والمذنب والبريء بأنهم أمام صراع مع الخير والشر.

ليس هناك فقط يجري أصحاب الفضيلة خلف غول الحقيقة، بل في ميادين كثيرة.. فالصحافي الحقيقي مثلاً لا يهدأ له بال حتى يجد أجوبة تقنعه حول ما يبحث عنه.. والقارئ يقلب الكتب والصحف لساعات ويغوص في التحليلات والآراء لعله يجد ما يقنعه من وجهات النظر بحقيقة لا تكون مطلقة بطبيعة الحال بل توجهها جماعات معينة وفق مصالحها، إذ إنه في أحيان كثيرة ليس من مصلحة الفرد سماع الحقيقة كما هي بل كما هم يريدون.


واليوم لا يشبه الأمس حينما كانت الكتب والنظريات والبحوث هي المفصل الذي يجلس عليه الأشخاص لشهور بغية الحصول على إجابات.. وقتها كان الفضول محركاً رغم المشقة .. واليوم تخدم هذه الفلسفة محركات البحث الرقمية وانتشار وسائل الاتصال ولا يجيد استغلالها سوى قلةٌ إن تحدثوا أحدثوا جلبة نتيجة عدم قبول المحيطين بفكرة «تغيير الفكرة».. وفئة أخرى تشيع الأكذوبة وتجملها لتصدقها شرائح كثيرة تخشى الغوص في التفاصيل بل تكتفي بظاهر الأمور.


وتتأرجح الحقيقة بين كيانها والواقع لتصير إشكالية يصعب من خلالها فصل هذين العنصرين عن بعضهما ، ولكن يجب أن نعلم أنه ليس لكل شيء صندوق أسود يخبرنا أن الجواب في نهاية المطاف إما أسود أو أبيض، بل هناك قضايا عميقة تحتاج إلى بصيرة وصبر ومنطق.

ما أحوجنا للحقيقة اليوم أكثر من أي وقت مضى.. فكم من شقيق طعننا وهو يلعب في الخفاء لاعتقاده بأن واقعه المزيف المزخرف بالمطامع لن يكشف، وكم من قضية تركت خلفها علامات استفهام كتلك التي تركها مثلث برمودا واختفاء أو موت أشخاص لهم تأثير ما في محيطهم أينما كان.. كل ما ينقصنا هو البحث الجدي عما يثير في حفيظتنا التساؤلات .. كل ما ينقصنا هو الوعي والعمق وعدم اعتناق السطحية!!

[email protected]