الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الاغتراب.. والاعتزال

أحياناً يأخذنا البوح إلى مناطق محكمة الإغلاق، وسراديب من الأسرار، لعلهم ظنوا أنهم أحكموا القبضة عليها وأسدلوا عليها الستار، يدهشك تزايد من آثر الصمت منهم، أو حجز مقعده في محراب الاكتفاء وكهف الاستغناء، وآثر سلامة نفسه على مغبة الدنيا، والانكفاء على النفس في واحات الذات.

قطعت دوامة صمت أحدهم بسؤال: كيف وصل بك المطاف إلى حيث أنت الآن؟ كيف اخترت الصمت والانزواء؟ كيف جعلت من الاعتزال صومعتك، ومن الاكتفاء ملاذك الآمن؟ هل ستقضي ما تبقى لك في هذا المعبر الدنيوي في سياحة واستراحة، وقراءات وتأملات، وعبادة وابتعاد؟.. لم تستغرق إجابته عن السؤال سوى لحظات، حتى اخترق حاجز الصمت قبل أن يأوي إليه من جديد، فأمطرني بوابل من المسببات: يا صديقي! لقد غدت بضاعتي خاسرة، ومعارفي متقادمة، لقد تراكم على سفري التراب، وما عاد أحد يهتم لعهدي القديم، لقد انصرف عني المريدون، فما وجدت يداً تروم خلاصي، فأفزع إلى الدموع فلا تجيبني، لأظل بين سندان الهجر ومطرقة الحياة.

ويواصل في أسى: يا صديقي! حتى خطى الأحفاد إلى مأواي غدت ثقيلة، يتحملون مغبة زيارتي بشق الأنفس، ويتململون في بيتي الخالي من (الواي فاي) والألعاب الإلكترونية.. أحاديثي عن الأخلاق وحكاياتي عن الزمن الجميل ثقيلة على مسامعهم، ولم يعد من بين الأصدقاء شغوفٌ بأحاديثي الخالية من مهارات الاغتراف ودهاليز الاستحواذ، فما من خل يواسيني حين يزداد احتياجي للمواساة.


لقد زاغت العيون في الهواتف الذكية، وتزايدت أمراض التوحد والاكتئاب، وغاب التلاحم والتراحم، فهؤلاء أنشدوا ضالتهم في تواصل سيبراني وهمي، فعناهم من شأن الزمان ما لم يعننا.. تأمل من حولك.. لقد انطفأ بريق العلماء والأدباء والمفكرين، وتصدر الفاشينستا واليوتيوبرس والفيسبوكيون والتويتريون والإنستغراميون المشهد بمحتواهم السطحي الذي يفتقر إلى العمق والمرجعيات الموثوقة.. إنه زمنٌ غير الزمن..


وقبل أن يدخل محراب صمته من جديد، رمقني بعينيه الذابلتين، ورماني بكلمات موجعة: يا صديقي! أوائل الصفوف ليس أنا وأنت!.. إنهم اليوم هم من كثر عدد متابعيهم في الفضاء الوهمي! أياً كان نوع المحتوى الذي يقدمونه! هذا هو مقياسهم، لم تعد معايير هذا الزمان لتشمل من أثمرت جهودهم عن إعداد جيل متسلح بالمعرفة والمهارة.. فهل أدركت الآن يا صديقي ثنائية الاغتراب والاعتزال؟