السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

إسلام الجيل الثالث.. ومحنة العلماء

في كل مرة يتعالى فيها صوت التطرف الراديكالي، تكثر الانتقادات والتساؤلات في الغرب حول سبب عدم قدرة العلماء على دحر المتطرفين وتوجيه الناس إلى تبنّي أفكار ورؤى أكثر قرباً من الوسطيّة.. فهل هذا يعني أنهم لا يؤدون واجبهم؟.

أنا لا أشك بقدرة العلماء على الاجتهاد والفتوى، إلا أن الظروف لا تسمح لهم بإنجاز المهمات التي تقع على كاهلهم، ومن المؤكد أن العامل الحاسم الذي أدى إلى ذلك هو التغير الكبير، الذي شهدته الوسائل الإعلامية، والطريقة التي يتم بها بثّ وتناقل النصوص الدينية والرسمية.

وفي العالم ما قبل الحديث، احتفظ العلماء بهامش واسع من القدرة على الاحتكار التام للنصوص الدينية، وكان يتم بثّ وتوجيه تلك النصوص بعد تداولها فيما بينهم، وكانت المخطوطات المدوّنة بخط اليد من طرف الكَتَبة مرتفعة الثمن ونادرة وغير متوفرة بالنسبة للغالبية العظمى من الناس، كما كانت الصحافة ووسائل الإعلام الدينية من إنتاج عقول العلماء أنفسهم، وكان التلامذة يستمعون لكبار العلماء لفهم النصوص الدينية وإعادة ترتيبها وتصنيفها، ثم ما لبثوا أن أصبحوا أساتذة في هذا المجال وعملوا على نقل تلك النصوص إلى الجيل التالي من المتدربين.


وكانت هناك فجوة واسعة تفصل بين العلماء والناس العاديين، فيما يتعلق بالقدرة على الوصول إلى النصوص، وهذا الأساس قوة السلطة الروحية للعلماء، غير أنه كتب لتلك الأسس السلطوية الدينية أن تشهد نهايتها مرتين خلال العصر الحديث وما قبله.


جاءت الضربة الأولى قبل قرنين من الزمان عندما ظهرت الصحافة المطبوعة لأول مرة في العالم الإسلامي، ففي مصر مثلا، تم افتتاح المطبعة الأميرية في بولاق عام 1820، وتكفلت بطباعة وتوزيع الكتب العلمية والثقافية والعلمانية إلى جانب النصوص والكتب المدرسية الدينية.

ومهدت إمكانية توزيع المطبوعات على نطاق واسع الباب أمام العلماء للتفاعل مع شرائح اجتماعية أكثر اتساعاً، إلا أن ذلك تمّ على حساب تضاؤل سلطتهم الدينية، وكانت الطريقة التقليدية التي يتبعها العلماء لتعليم تلامذتهم عن طريق التلاوة والتحفيظ قد تم استبدالها بقراءة النصوص المطبوعة المتنوعة.. وهكذا، أصبح في وسع التلامذة المجتهدين قراءة خلاصة كاملة للنصوص الدينية وتفسيراتها بأنفسهم ومن دون الحاجة للاستعانة بالعلماء، وليس من قبيل الصدف أن تكون الغالبية العظمى من الحركات الدينية الراديكالية قد تأسست على أيدي تلاميذ ذوي ثقافة علمانية، وربما كان ذلك سبباً في ظهور إسلام الجيل الثاني.

وجاءت الضربة الثانية في مطلع القرن الحادي والعشرين، إذ مع ظهور الإنترنت وخدمات الشبكات الاجتماعية وانتشارها السريع، تحولت معظم النصوص الدينية إلى الحالة الرقميّة، وتم تحميلها على شبكة «الويب» العالمية، وأصبح الدخول إليها مجانياً ومتاحاً لكل إنسا، وفي هذا الجيل الثالث للإسلام، بات في وسع أقل الناس معرفة بحقائق الأمور أن يتصدوا للعلماء بعدة كبسات على أزرار لوحة مفاتيح الكمبيوتر.

وهكذا تبخَّرت قدرة العلماء على احتكار النصوص الدينية بشكل كامل، وانتهت معها قدرتهم في التأثير على الناس العاديين، ولا شك أن انهيار هذه السلطة أدى إلى تغير نفسي واجتماعي هائل التأثير.