السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

نظرية الدولة الجديدة

ما ينبغي أن يكون عليه الفكر العربي لتجنّب آفة الانهيار التام للوجود العربي، في ظل التحلحل المتدرّج والسريع الذي يشهده كثير من دوله ومجتمعاته، هو تجديد شكل الدولة وتغيير كثير من وظائفها التي أصبحت مُتجاوَزة وخارج سياق التحولات الجذرية التي يعرفها العالم اليوم.

مطلب التجديد ليس عربياً فقط، بل هو عالمي، وقد ضع كل دول المعمورة أمام خيارين، إما إنجاز تغييرات في ماهية الدولة نفسها وتحقيق انتقالات في وظائفها من حياة علاقتها بالفرد والمجتمع، وإما التمرّد عليها وإسقاطها كما عبّر عن ذلك أصحاب السترات الصفراء في فرنسا، وتظاهرات الانقسام الإثني في إسبانيا وإنجلترا ضدّ وحدة الدولة وسيادتها.

لم تعد الدولة في أوروبا تقنع أفراد مجتمعاتها بجدوى دورهم في حماية حقوقهم والانتقال بهم إلى مجتمع مريح يضمن لهم حدّاً مقبولاً من الرفاه والاعتراف بهوّياتهم الصّلبة.. لم تعد تعني لهم الديمقراطية التي يعيشون في كنفها أيّ شيء، ما داموا يعانون من سياسة التقشف والدفع الإجباري والمتزايد للضرائب.


لقد أصبحت الدولة في حياتهم اليوم كابوساً ومصدر اكتئاب يقضّ المضاجع، لذلك فَقَدَ الفرد الأوروبي الثقة في الدولة وأصبح لا يؤمن بالانتخابات، قاطع صناديق الاقتراع واعتبر الديمقراطية التمثيلية خدعة.


يكمن الإشكال الكبير هنا، في أن الدولة الأوروبية الآن لم تعد قادرة على الإجابة عن تطلعات الأفراد وحاجياتهم المتجدّدة، مما يعني أن وظائفها وقدراتها أصبحت متجاوزة.

لقد استنفذت دورتها التاريخية باعتمادها على روسو وفولتير ومونتسكيو إلى هيغل، وأدّت مهمتها بنجاح طوال 3 قرون في تحقيق الديمقراطية والتقدم المعرفي والتقني، لكن اليوم تقادمت هذه الأسس التي تنتمي إلى نموذج «بردايم» الهرم، لمّا طرأت تحوّلات كبرى فرضت أنظمة معرفية مغايرة تماماً.

بمعنى، أن هناك حاجة اليوم إلى صياغة نظرية للدولة تقوم على المتغيرات الفكرية والمعرفية التي تقودها التكنولوجيا الحديثة، وعلى رأسها ثورة الذكاء الاصطناعي، ومن أهم أسس هذه النظرية إعادة الاعتبار للفرد والتفاعل الإيجابي مع انتظاراته في سياق نسقي، يقوم على ترسيخ موضوعي للديمقراطية التشاركية تضمن للدولة سيادتها كما تضمن للفرد حقوقه الشاملة، من هنا يحصل تعاقد اجتماعي جديد أساسه الفرد داخل المجتمع.

إن بناء الديمقراطية التشاركية وفق نظرية جديدة للدولة لا يلغي الديمقراطية التمثيلية ويتجاوزها، بل يجعلها أداة لإنجاح هذا البناء وتحصين التعاقد المتحقق بين الدولة والأفراد، بما يجعل المسؤولية مشتركة والمحاسبة متبادلة وشفّافة.

صحيح أننا لم نصل بعد في بلادنا العربية إلى نموذج الدولة الأوروبية التي صارت الآن متجاوزة، أو أننا لم نصل بعد إلى الدولة في أبسط شروطها الديمقراطية، ولكن هذا لا يعني أن بلوغ الدولة الوطنية في بلادنا العربية يقتضي الاقتداء بنموذج الدولة الأوروبية، لأن هذا النموذج نفسه أصبح متهالكاً.