الخميس - 02 مايو 2024
الخميس - 02 مايو 2024

قابوس.. رحيل «مصلح على العالم»

«.. في سلطنة عمان نكتشف سيادة التعمير في الأرض، وبياض المساكن والقلوب، واخضرار الأرض، ما أعطى للسياسة معنى آخر، وأوجد أحزاباً - مختلفة عن تلك التي نعرفها في المجال السياسي - على مستوى الفرد والجماعة والقبيلة، اجتمعت كلها لتلبي بشكل متواصل رؤية الرشد عند سلطان جمع بين إرث إمبراطورية وواقعية المرحلة، وموقع يحفره لدولته في صخور المدنية الراهنة التي تلفظ من ليس بقادر على البقاء أو العطاء..».

هذه الفقرة مأخوذة من تحقيق ميداني أجريته في سلطنة عمان رفقة الزميل سعيد سالم البادي نشر على حلقات عشر بجريدة «الاتحاد» في مارس 2005، وقبل هذا التحقيق اطلعتُ على كتاب «مصلح على العرش» تأليف الكاتب الروسي سيرجي بليخانوف، ترجمة: خيري الضامن، الصادر عام 2004، وقد وجدنا عمان من الداخل، كما تحدث عنها بيلخانوف، وعمّق ذلك فينا إحساس بالانتماء القومي لجهة صناعة ديمقراطية عربية من نوع خاص.

إن راهنية الزمن العربي بما تحمله من تفكك وإحباط وخضوع واستسلام هنا، وبصيص لأمل أو قبس من نور هناك، تدفعنا إلى قراءة التجربة العمانية من خلال الفعل السياسي للسلطان قابوس بن سعيد ـ رحمه الله ـ لجهة امتداده وكسبه بعداً عالمياً، وغلقه ـ بوعي ـ لأبواب العداوة والكراهية مع إدراك لأهمية الجغرافيا، ودور الميراث التاريخي، والوعي بمتطلبات الحداثة والتطور.. يتم ذلك كله ومثله معه، انطلاقاً من تقوية الجبهة الداخلية، لجهة إعادة تنشيط صيغ جديدة للحكم، تتخذ من ميراث الماضي للسابقين مدخلاً للتغيير الآني، وأقصد هنا تحديداً «الجولات السلطانية»، والتي قال ـ يرحمه الله ـ في إحداها: «أعترف بأنني أتمتع كثيراً بهذه الرحلات الداخلية التي أقوم فيها بطول البلاد وعرضها.. في هذه الرحلات ألتقي بالناس مواجهة وأستمع إلى مطالبهم وهم يسمعون وجهة نظري.. أنني أشعر بالألفة هنا وهم كذلك.. إن تفقد أحوال الرعية شأن موجود في تاريخ الإسلام، ويعد من واجبات القائد.. هناك مواطنون قد لا تسمح لهم ظروفهم بأن يطرقوا أبواب معينة فآتي أنا إليهم بشكل مباشر..».


قد يجد المراقب والمتابع والباحث الجاد، بل والمؤرخ أيضاً، مواطن كثيرة لتقييم تجربة السلطان قابوس في الحكم لمدة 5 عقود، لكن الذي يهمني هنا هو رؤيته لمسألة الحكم لجهة الاستماع لمطالب الشعب وشكواه، وما ترتب عن ذلك من نجاح في فرض سياسة الحياد مع انفتاح ظاهر وخفي على كل دول العالم، بما فيها الدول الكبرى، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، ما أهّله ليكون مصلحاً على العالم.