الثلاثاء - 19 مارس 2024
الثلاثاء - 19 مارس 2024

طاغور بين الأمس واليوم

دعيتُ للمشاركة في المؤتمر الدوليّ حول طاغور في العالم العربيّ الذي نظّمه قسم اللّغة العربيّة والفارسيّة في جامعة كلكتا الهندية في 18 من الشّهر الجاري، وقد شدّ انتباهي، وأنا أحضّر لكلمتي في الملتقى، المفارقة الكبيرة بين إنسانيّة طاغور، المصلح والفيلسوف الهندي الكبير، وبين ما يجري على المشهد السّياسيّ الهنديّ حاليّاً، حيث اجتاحت موجة من السّخط الشعبيّ العارم الهندَ قاطبةً منذ نحو شهر ضد قانون الجنسيّة الجديد الذي يراه كثيرون غير دستوريّ وغير إنسانيّ - لا سيّما أنه يميّز ضدّ المسلمين- وضدّ السّجل الوطنيّ للمواطنين المزمع تطبيقه، والّذي قد يضع المسلمين والفقراء من الهنود - وما أكثرهم في الهند!- تحت رحمة ممثلي السلطة؛ لأنّهم مطالَبون لزاماً بتقديم وثائق تدلّ على أنّ آباءهم وأجدادهم قد ولدوا في الهند؛ لا غرابة إذن في أنّ ولاية بنغال - وهي موطن طاغور- هي مركز أقوى الاحتجاجات الشّعبيّة ضدّ قانون الجنسيّة الجديد.

إن طاغور وغاندي من الشّخصيّات الأكثر تأثيراً في الفكر الهنديّ الحديث من النّاحية الثقافيّة والأدبيّة والفكريّة، ومن الناحية السّياسيّة والفكريّة والأخلاقيّة، ويعدُّ الاثنان في طليعة المفكّرين والزّعماء أصحاب النّزعة الإنسانيّة القويّة في القرن الـ20.

كان طاغور شخصيّة عملاقة متعدّدة المواهب؛ كان شاعراً ورسّاماً ومسرحيّاً وروائيّاً وقاصاً وملحناً ومعلّماً ومصلحاً اجتماعيّاً وفيلسوفاً، وقد ملأ المكتبة بإنتاجاته الغزيرة في الشّعر والقصة والرّواية والمسرحيّة، وفاز بجائزة نوبل للآداب عام 1913، ولكنّ العنصر الأبرز والأكثر أهميّةً في فكره وجهوده الإصلاحيّة هو حبّه للإنسان، ودعوته إلى الأخوّة العالمية، وتوقه إلى الحرّيّة، ونبذه للحقد والكراهيّة، وعلى الرغم من أنّه كان زعيماً وطنيّاً عظيماً في عصر خاضت الهند فيه حركة الاستقلال من الاستعمار البريطاني، لم تستطع حدود الوطنيّة أن تحجب بصره عن وحدة الإنسان، وسعى بوصفه مصلحاً اجتماعياً إلى تحطيم القيود الموجودة في المجتمع، كما دعا إلى ضرورة التّغيير والتّطّور في الإطار الثقافيّ والدّينيّ والسّياسيّ الخاصّ به.


رأى طاغور أنّ الدّين واحد في جوهره، ولكنّه مختلف في صوره المتعدّدة، وقال يوماً: «فليكن للموتى خلود الصّيت، وليكن للأحياء خلود الحبّ».


ويكفينا أن نقرأ من جديد مناجاته الله: «حيث الذهن خالٍ من الخوف، والرّأس مرفوع، حيث العلم حرٌّ، والعالم غير مقسّم إلى أجزاء بجدران الوطنيّة الضّيقة.. إلى جنة الحرية.. أدخِل بلدي يا رب».

ولذلك وصفه غاندي بـ «منارة الهند»، والحقّ أنه صار منارة الشّرق والعالم كله، بإنسانيّته ومحبته للجميع.