السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

العرب.. وغياب الرؤية التاريخية

حقاً هناك وضع إشكالي معقد في البلاد العربية، ليس لأن هذا الوضع يعيش انتكاساً سريعاً منذ القرن الماضي، وتدهوراً أسرع خلال السنين الأخيرة من هذا القرن فقط، نتيجة تكلّس تاريخي مختلف المظاهر، ولكن لأن الإنسان العربي بالجمع لم يعرف كيف يحدّد الخيارات الكبرى المتعلقة بنوع المجتمع الذي يريد العيش فيه، وبنوع النظام السياسي الذي يفترض أن يكون قائماً على توافق ديمقراطي عادل، يشكّل فيه المواطن الفرد صلب تعاقد اجتماعي متين، أفقه دولة ومجتمع عربيان منسجمان.

إن غياب هذه «الرؤية التاريخية» في بناء نظام سياسي عربي، وفي تشكيل مجتمع متقدّم واعٍ بخياراته المصيرية، أوقع المنظومة العربية بكاملها خارج الزمن الكوني الذي جعل من الآخر غالباً ومتبوعاً، ومن العربي مغلوباً وتابعاً.

إن صفة التبعية هاهنا، لم تعد اقتصادية وثقافية فقط، كما هو منظور إليها كلاسيكياً، وإنما تحوّلت إلى أفعال للمغايرة والاحتجاج، لأنها غير محكومة بتصور ثاقب أساسه «الرؤية التاريخية»، وهذا ما يفسر فشل ما يطلق عليه الربيع العربي وارتباكات انتفاضات الشارع التي لم تتحقق نتائجها المرجوّة، كما حدث في أوروبا ابتداء من أواخر القرن الـ16.


ولمّا نقرأ كرونولوجيا الأحداث السياسية والاستعمارية التي عصفت بالبلاد العربية منذ القرن الماضي، ابتداء من معاهدة سايكس بيكو، واحتلال فلسطين، واستعمار الأراضي العربية، إلى الجرائم الدموية البشعة التي مارستها إسرائيل وأمريكا ضد العرب، إلى مشروع صفقة القرن، يتضّح أن ردّات الفعل في سياق ما يعرف باحتجاجات الشارع لم تكن محكومة بنَفَس استمراري له نُخب صلبة قويّة، ملتزمة برؤية تاريخية متدرجة، لا تجعل من مبدأ الحوار والتفاوض لحظة تنازل ومساومة بحجة قبول الواقع والخضوع لمنطق ضغوط ميزان القوى.


إن عدم تماسك هذه النخب وضعفها الذي انكشف تحت منظار تجاذب مصالحها الذاتية، انعكس تلقائياً على الأفراد داخل المجتمع، فأصبح الفرد العربي يتماهى مع نموذج النخب السياسية والثقافية السائدة تاريخياً، ويتعاطى نوعاً من الارتكان الذاتي والتقاعس المقنَّع تغليباً لمصلحته في البقاء الفردي، والبحث عن الانتفاع المباشر وغير المباشر في أي اتجاه ممكن.

إن هذا ما جعل النَّفَس الاحتجاجي، سواء ضد الآخر الخارجي أو ضد المغاير الداخلي، لا يتّسم بالاستمرارية الأفقية التي يغذّيها الوعي التاريخي في إطار رؤية مستقبلية نحو الدولة والمجتمع المفترضين.

لذلك، استطاع منطق القوة الذي مارسته الدول الغالبة أن ينجح أخيراً، في بعثرة الدول العربية وتقزيمها، بالرغم من التضحيات التي بُذلت. خلاصة القول: إن رمزية «التضحية» لم تحقق تراكماً نوعياً ينتقل من حادث «التضحيات» إلى إعطاء معنى للمقاومة، له ارتباط وثيق بصناعة «الرؤية التاريخية»، وله دلالة الإصرار على الاستمرار في بناء نِديَّة إيجابية حيال الآخر، لها معنى الاعتراف بالإنسان العربي ذاتاً وتاريخاً.