الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

أردوغان.. وسياسة العبث بالتقاليد والثوابت

أثناء زيارتي لمسجد آيا صوفيا في إسطنبول، العام الماضي، كان لديَّ كثير من الوقت حتى أتمعّن روعة الهندسة المعمارية واللوحات والقطع الأثرية المسيحية والإسلامية.

ومن بين الحشود الضخمة من زُوَّار هذا المعلم التاريخي العظيم، كانت قِلّة فحسب من معتنقي الديانتَين الإسلامية أو المسيحية، والغالبية العظمى منهم تأتي من أبعد بلدان الشرق الأقصى، وكانوا يبوحون بإعجابهم الشديد بروعة العمل والتفوق الهندسي لبناة هذا المعبد، وأيضاً بفضل أولئك الذين سهروا على حمايته عبر القرون بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم الخاصة.

وهكذا كان آيا صوفيا مركزاً للتنوير وإشاعة أسس التسامح والاحترام المتبادل، ويبدو أن هذه الوظائف النبيلة التي كان يؤديها قد أتت على نهايتها الأسبوع الماضي.


فالقرار الذي اتّخذه أردوغان بتجريد هذا المعلم التراثي العالمي من معناه كشعار لوحدة الجنس البشري، مهما اختلفت معتقدات وثقافات فئاته وجماعاته، يشكِّل ضربة للإسلام والمسيحية معاً.


ومن المؤكد أن القرار لا يعدو أن يمثل لعبة سياسية من حاكم تركيا، وهو مجرد أسلوب مرفوض لتأكيد عزمه على قيادة العالم الإسلامي وإعادة نفخ الروح في الإمبراطورية العثمانية البائدة، إلا أن هذه النزعة القيادية المزعومة لا تستند إلى الإيمان الحقيقي، بل على التنافس الدنيوي مع بلدان وثقافات ومعتقدات دينية أخرى، فضلاً عن تنكره للتنوع الديني والإثني الذي يميّز الشعب والرأي العام التركيَّين.

وقبل أي شيء آخر، يعد القرار ضربة لإسطنبول ومكانتها الثقافية والسياحية باعتبارها تمثل النقطة الحساسة لتقاطع الطرق القديمة للعالم والتي تربط آسيا بأوروبا، وأفريقيا بمناطق السهوب الروسية الشاسعة، وهناك من يعدها «روما الثانية» أو «العاصمة العالمية الأولى».

وربما تكون هذه الإهانة للمقدسات قد جاءت انتقاماً من نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، التي أكدت أن قطاعاً عريضاً من الناخبين الأتراك يرفضون أن يكون أردوغان زعيماً لحزب العدالة والتنمية، وهو المنصب الذي احتفظ به لعقود، وقبل أن يمثل قراره الأخير إشارة معادية للمسيحيين الأرثوذكس أو الكاثوليك في جميع أنحاء العالم، إلا أنه يعدّ ضربة قوية موجهة للشعب التركي في المقام الأول، إذ يسيء أيضاً لصورة المدينة وسمعتها التي تفتخر بها كمركز سياحي وثقافي عالمي، كما أن قرار أردوغان يسبب ضرراً بالغاً لتركيا كلها، لأن اقتصادها المنهك يعتمد بشكل كبير على تدفق حشود السيّاح الذين تجذبهم آثار وأطلال الحضارات الأوروبية البائدة.

وتعتمد استراتيجية أردوغان على فتح وإشعال جبهات متعددة خارج الأرض التركية تمتد من ليبيا إلى تونس، ومن اليونان إلى مصر، فضلاً عن طموحاته التوسعية في أفريقيا، ومن المؤكد أن هذه المغامرات لن تنقذ اقتصاد تركيا، ولن تحل أزماتها السياسية والاجتماعية المعقدة.

ولا شك أن حالة انعدام الثقة في السياسة التي تتنكر لتاريخ تركيا العظيم بدلاً من تمجيده، سوف تتكرّس، وهي التي ستدفع الأجانب للتردد في اكتشاف خصال وفضائل شعبها المضياف والطيب.