الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

بيروت.. عودة إلى المربع الأول

أحياناً، نمر بلحظات ندرك فيها أننا تقدمنا في العمر، ولقد كُتب لي أن أعيش طويلاً حتى أرى بيروت وهي تحاول النهوض من الرماد، وأتمتع بمظاهر رخائها ليتم تدميرها بعد ذلك من جديد في انفجار 4 أغسطس العنيف.

حدث ذلك أواسط عقد التسعينيات عندما وطأت قدماي شوارع بيروت للمرة الأولى، وسبق لهذه المدينة الجميلة أن حظيت بلقب «باريس الشرق الأوسط»، وعُرف عنها أنّها مدينة عامرة بالآمال والطموحات.

وعندما وصلت إلى مطار بيروت الدولي، كان الوقت متأخراً من الليل وكان مبنى المطار هادئاً حتى يكاد يبدو وكأنه مهجور، وبدا لي أن أشبهه بمستودع يخلو تماماً من الديكور ومقومات التطور وجذب الاهتمام.


وكان من الغريب حقاً بحسب ما تسعفني ذاكرتي، أن تُلْفِت نظري صورة جدارية ضخمة لرئيس الدولة المجاورة بدلاً من رئيس الجمهورية اللبنانية ذاتها، وبالطبع، لم يكن المطار قد حمل اسم «مطار رفيق الحريري» في ذلك الوقت.


وبادرت إلى حجز غرفة متواضعة في فندق تم افتتاحه حديثاً، وكانت أسعاره معقولة ويُدعى «هوليداي إن الفردان» ويقع في شارع الفردان البيروتي الراقي.

وعندما قلت لسائق التاكسي الذي كان ينتظر على مدخل المطار بلغة عربية تعيسة ومكسرة: «أريد الذهاب إلى فندق هوليداي إن»، سألني مستغرباً: «هل أنت متأكد أنك تريد الذهاب إلى فندق هوليداي إن»؟ وراح يكرر السؤال عدة مرات حتى ظننت أن طريقتي في لفظ اسم الفندق لم تكن صحيحة، فرحت أكرر الاسم على شكل مقاطع متتابعة: «هولي – داي - إن».

ونزل السائق عند طلبي على مضض ثم أنزلني في زاوية مظلمة من أحد الأحياء وتركني هناك، وهكذا وجدت نفسي وحيداً عند عتبة باب فندق.. (هوليداي إن) المدمّر عن بكرة أبيه في شارع عمر الداعوق في منطقة «مينة الحصن»، بدلاً من المبنى الجديد للفندق الذي افتُتح حديثاً في ذلك الوقت في شارع فردان.

وكان الانطباع الأول الذي سجلته عن بيروت هو أنها مثال معمم عن مبنى الفندق المدمّر، بسبب شدة القصف الذي تعرضت له أثناء الحرب الأهلية المريرة.

ولقد بقيت تلك الصورة المؤلمة لبيروت عالقة في ذاكرتي، حتى بعد أن تعافت تماماً من كارثة الحرب، واستعادت سمعتها كمدينة جذابة راقية.

والآن، وبمتابعة هذا المشهد المؤلم للدمار الهائل الذي لحق بالمنطقة المركزية الحساسة للعاصمة اللبنانية، فإنني أشعر أن التاريخ يعيد نفسه وأننا نشهد عودة بيروت من جديد إلى المربع الأول.

وأنا أشعر أيضاً أن العمر تقدم بي كثيراً لدرجة أن يُكتب لي أن أتوقع أن تنقضي دورة تاريخية كاملة قبل الكشف عن حقيقة ما جرى في انفجار الثلاثاء الماضي.. فمن الذي احتفظ بهذه الكمية الضخمة من المواد المتفجرة في ميناء مدني؟ ومن الذي قام بإشعالها حتى انطلقت سلسلة الانفجارات الهائلة؟ يبدو لي أن الحقيقة تلاشت مع تلاشي صوت الانفجار.