السبت - 11 مايو 2024
السبت - 11 مايو 2024

روح التعايش.. من طليطلة إلى أبوظبي

على مرِّ التاريخ الإنساني تتجدد النماذج والقصص الحية المؤسسة على الإصرار بحتمية التعايش بين الأديان والثقافات والحضارات.. قصص تحكي عن شخصيات عظيمة امتلكت الشجاعة لكسر الأحكام المسبقة والدعوة إلى احتضان الجميع ضمن البيت الإنساني المشترك.

في طليطلة ــ أو تليدو كما يطلق عليها الإسبان ـ شهدت البشرية أحد أهم نماذج التعايش الإنساني، ففي ظروف صعبة وعلى إيقاع تاريخ من الحروب الدموية ببن المسلمين والمسيحيين شكلت هذه المدينة التي تبعد 75 كم جنوب العاصمة الإسبانية مدريد مثالاً للتعايش بين أديان العالم وثقافاته، خصوصاً أتباع الكتب السماويّة الثلاثة، وعرفت في القرون الوسطى باسم مدينة التسامح، فقد تعايش فيها اليهود والمسلمون والمسيحيون طيلة قرون من الزمن دون أي مشكلات، ورغم إنهاء حكم المسلمين في الأندلس فقد ظل مسموحاً لهم بالصلاة في بعض المساجد مثل مسجد (المردوم)، الذي لا تزال معالمه موجودة في طليطلة إلى الآن.. فيها تم نسج علاقات إنسانية بشكل يسمو على الاختلاف في النظرة والمعتقد، وهو أمر لا تزال شواهده واضحة في معالم المدينة، التي يتجاور فيها منذ قرون المسجد مع الكنيس والكنيسة، وهو ما جعلها تنعت في أغلب المصادر التاريخية والمعاصرة بمدينة الثقافات الثلاث.

ويبدو أن ماضي تلك المدينة وحاضرها المتجدد يتجسد اليوم في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، التي قدمت نموذجاً فريداً في التعايش من خلال فكرة «العائلة الإبراهيمية» هذا الحضن الإنساني الذي يسعى إلى توطيد العلاقات بين الأديان، ودعم ثقافة التعايش بين البشر، حيث ستكون جزيرة السعديات في أبوظبي مكان النواة الأولى لمشروع هذه العائلة الإنسانية، التي تقوم على أساس نبذ العنف والتطرف ونشر ثقافة المحبة والتعايش، ويتجسد ذلك في بناء كنيس ومسجد وكنيسة بغرض تدعيم الأخوة الإنسانية وتعزيز السلام العالمي.

والحقيقة أن مشروع العائلة الإبراهيمية لم يولد في دولة الإمارات العربية من فراغ، فهذه الدولة المركزية في منطقة الخليج والشرق الأوسط تدار وفق تصور عميق لمفهوم العلاقات الإنسانية المشتركة، وحتمية التعايش بين مختلف الشعوب والحضارات.. تصور أسَّس له ودعَّمه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي ركز على أهمية أن تواكب الشراكة الاقتصادية والتجارية شراكة إنسانية، قوامها الحوار وترسيخ ثقافة التعايش لفتح آفاق أرحب للأمن والسلام العالمي.

لقد انتقلت دولة الإمارات من التصور النظري للتعايش والسلام إلى التطبيق الفعلي، من خلال نظم وقوانين تشجع الأخوة الإنسانية، وتحض على التسامح، وجاء إبرام الاتفاق التاريخي للسلام مع دولة إسرائيل ليؤكد مدى الشجاعة والإصرار والقناعة، التي تولدت لدى الإماراتيين بضرورة كسر الأحكام المسبقة، وفتح صفحات جديدة بين الدول والشعوب.

ولم يكن القرار الإماراتي يتوقع اتفاق السلام أمراً سهلاً في محيط عربي إسلامي صعب، وضمن خريطة جيوــ سياسية معقدة، لكن الشجاعة وروح التعايش، كانت المحفز الأول الذي جعلها تتقدم لتصبح الدولة الخليجية الأولى التي تعلن بشكل صريح وواضح عن إبرام اتفاق سلام تاريخي مع إسرائيل، ينتظر أن يكون له ما بعده في سياق الأحداث المتلاحقة في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط.

هي إذن، روح التعايش والقدرة على تحقيق سلام الشجعان، التي دفعت مدينة طليطلة لتعرف بمدينة الثقافات الثلاث في الماضي هي نفس الروح التي تحملها اليوم أبوظبي من خلال المجمع الإبراهيمي، والسعي إلى إرساء ثقافة السلام ودعم التعايش المشترك بين مختلف الأديان والشعوب والحضارات.