الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الكارثة المركّبة

دخل العالم إلى مدار الكارثة المركبة التي كان قد حذر من وقوعها كثير من المفكرين والمثقفين، الذين لا ينتسبون إلى الليبرالية المتوحشة، لم يتم الإنصات إلى هؤلاء واعتبُروا مجرد حالمين بعيدين عن الواقع الذي تحدده شروط الرأسمالية والبراغماتية الواقعية، كان على الليبرالية ألا تترك الأصوات الناقدة لها وحدها تسود، لقد حاولت تحريف تنبؤات هذه الأصوات المتحدثة عن أفولها بخلق فكرة ماكرة حول نهاية التاريخ أو الإنسان الأخير، مثّلها فرانسيس فوكو ياما بدفاعه عن الديمقراطية الليبرالية ناسباً إليها كل قيم الحرية والمساواة والرفاه، وجاعلاً منها آخر محطة في مسار العمر الأيديولوجي للإنسان، كان هدفه هو خدمة طموح دهاقنة الليبرالية في تحققها كحل نهائي للإنسانية في تدبير شأنها العام، لذلك حاول التبشير بعولمة ديمقراطيتها وسيادة أفكارها حول الإنسان الأخير، لم يكن يعلم فوكو ياما بتبلور كارثة مركّبة في رحم هذه الليبرالية، وأنها سبب مباشر لويلات العالم وانزياحه إلى الحافة.

من تجليات هذه الكارثة، منظومة صحية عالمية متضعضعة كشف عنها وباء كوفيد-19 الذي أماط اللثام عن هشاشة النظام الليبرالي وعدم اكتراثه بالإنسان انتصاراً للرأسمالية والربح السريع كيفما اتفق، إن طغيان الوباء وتكاثر ضحاياه يؤشر على كارثة صحية تاريخية هي بصدد التوقيع على خراب صحي، وعلى اعتداء معلن ضد العدالة الاجتماعية للإنسان المعاصر.

من هذه التجليات، أيضاً، كارثة المنظومة الأمنية التي تسببت فيها الليبرالية بخلقها للإرهاب المتطرف واستعمالها لما أسمته بالإسلام السياسي، لبعثرة الأوراق الأمنية في العالم، خاصة في الشرق الأوسط، بهدف تحقيق استراتيجية إعادة تقسيم الخريطة السياسية في البلاد العربية استتباباً لهيمنتها على البترول وترسيخ تمركزها الجيوستراتيجي، لكن فاتها أنها بذلك كانت تصنع فكراً متطرفاً أصبح ظاهرة متجولة في كل العالم، انفلت من عقالها ليتحول إلى وحش دموي بات يهددها، هي الأخرى.


ظهر أخيراً استفحال هذه الكارثة في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ممثلاً في الانقسام السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين، الذي تحول إلى انقسام اجتماعي بخلفيات إثنية ودينية وحقوقية وثقافية، أبان أن استفحاش التوحش الليبرالي قد حرف مبدأ التعاقد الاجتماعي حول الديمقراطية إلى فوضى اجتماعية، توشك أن تتحول إلى حرب أهلية لا ينطفئ أوارها أبداً، نظراً للتعددية المعقدة للمجتمع الأمريكي وحوافز اللاشعور التاريخي المضمرة التي لا تزال تفعل في ضمير الأعراق من الأصول الوافدة على أمريكا، ومنها السود، تأكد هذه الأيام أن المجتمع الأمريكي لم يعد يعرف أين يتجه، هناك تشكيك في الديمقراطية وتجاوز للمؤسسات، وهناك رغبة في الحريات الفردية المطلقة، لكن هناك أيضاً رغبة أكيدة في حمل السلاح وقتل مخالفي الرأي واللون والعقيدة.


حقاً، العالم اليوم يعيش كارثة مركبة لها ما بعدها، أقل ما يقال عنها أنها بنت الليبرالية المتوحشة، وأن ما يسمى بالإنسان الأخير هو فعلاً دلالة على الإنسانية الأخيرة.