الخميس - 09 مايو 2024
الخميس - 09 مايو 2024

عندما يسبق اللسانُ العقل..

عندما تضعف الأمم يكون أول أسباب ضعفها تراجع مكانة العقل ودوره فيها، وتعاظم أدوار اللسان وانتشار الضوضاء الصوتية التي تحدثها كلمات فارغة من المعاني، ومن ثم يتجادل الناس حول مباني الكلمات وليس معانيها، ويتصارعون حول اللامعنى، ويتقاتلون على ألفاظ لا حقيقة لها في الواقع، لأن هناك حالة انفصام بين اللفظ والمعنى، بحيث تكون هناك دلالات ومعانٍ متناقضة، ومختلفة لكل لفظ، وكل إنسان يستخدمها حسبما يريد، في هذه الحالة تسود حروب الكلمات، وتُصنع الحقائق بالكلمات، ويتم النصر والهزيمة بالكلمات.

كانت هذه الحالة خطيرة حين كان التواصل بين البشر مباشراً، ولم تكن قد اختُرعت الصحف أو الفضائيات أو الشبكة العنكبوتية، فقد أدى فيضان الكلام إلى انهيار حضارة اليونان القديمة، فقد كان المتلاعبون بالألفاظ الذين أُطلق عليهم السوفسطائيون هم آخر مراحل الحضارة اليونانية، وبداية انهيارها، كذلك تمزقت الأمة الإسلامية في العصر العباسي الثاني بعد أن انشغل الجميع بالكلام وتركوا العمل، وبعد أن صارت إبداعات العقل كلمات يتحارب حولها المجتمع وينقسم.

والآن صار الكلام أقوى من «النابالم» في عصر شبكات التواصل الاجتماعي، حيث يتم حرق مجتمعات كاملة بكلمات تصدر من هذه الفضائية أو تلك، أو من هذا الشيخ أو ذاك، أو من الناشط السياسي المقيم خارج الديار مسترخياً على أريكته، يشعل الفوضى ويدمر الديار، صار الكلام أشد تأثيراً من السلاح، بل صار هو محرك السلاح، بل صار من يحمل السلاح جماداً أو آلة، يحركها صاحب اللسان البليغ الذي يتحكم في عقل الآلة حاملة السلاح، ويحركه كأنه إنسان آلي، لذلك لا بد من تعديل القوانين لجعل من يحركون المجرمين بفتاواهم، ووعظهم هم الفاعلين الحقيقيين للجرائم، أما البلهاء المنفذون فهم مرضى يحتاجون إلى العلاج والتأهيل.


عندما يسود ميزان العقل، ويكون اللسان تابعاً لمنطق العقل تستقر المجتمعات، وتنتظم في سيرها، وتحقق النهوض والتقدم، والسعادة لأفرادها، لأنه لن يتم التلاعب بالكلمات لتدمير المجتمعات، كما هو حادث اليوم في عالمنا العربي، الذي صار ساحة تتلاعب فيها فضائيات، ومثقفون وناشطون ومشايخ، وثوار، الجميع يخدعون الجماهير بكلام ظاهره صدق، وهو في حقيقته وسيلة للخراب والدمار.


إذا تحكم العقل في اللسان تتوقف الحروب الكلامية التي صارت تشعل الحروب الفعلية، وتزهق الأرواح، وتشرد البشر، وتهدم العمران، وهذه قاعدة بسيطة جداً يستطيع كل إنسان أن يطبقها على نفسه، ولا تحتاج إلى دولة لتُلزم الناس بها، ولا إلى نظام دولي ليفرضها بالقوة.