السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

النخب.. والإفراط في الادعاء

إن ضيق أفق الإنسان يتضح من اعتقاده بأنه لا يرى معضلة أمامه، وأنه قد وصل، ولا يتعلم من الحضارة، ولا يتأمل الثقافة ويستنير بها، كما هي الحال في بعض النخب السودانية قديماً وحديثاً، هم الذين سرعان ما يؤمنون بأنفسهم بتوليهم السلطة، بفرضية أن العلماء ينتمون إلى عصورهم، والأدباء ينتمون إلى جميع العصور يجسدون مدى الإرادة المحدودة للإنسان الذي مصيره هائل، وإنه خطير عندما يكون ممتلئاً بالشبع وقوي بالصدفة مثل هؤلاء.

كثير من الجرائم تُرتكب في الحياة بسبب الشبع والجشع، فأي تلاعب بالناس، حتى لو كان ذلك في مصلحتهم غير إنساني، والتفكير نيابة عنهم وتحريرهم من مسؤولياتهم والتزاماتهم غير إنساني، فكل ثورة حقيقية لها خصائص معينة تشمل الإيمان، والشعور بالقوة، والأهمية، والحيوية، والرغبة العارمة في التضحية، وكلها بعيدة كل البعد عن المصلحة الذاتية بل تبحث عن الخير للشعوب.

قياساً على المثل السوداني القائل: (القلم لا يزيل البلم)، فالنخبوية الأكاديمية وحدها لا ترفع مستوى الناس ولا تجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية أو أكثر إنسانية، فالعلم إن لم يجعل الناس أكثر قدرة وأكثر كفاءة وأكثر فائدة للمجتمع يكون معضلة.


ولقد أثبت التاريخ أنه يمكن التلاعب بالنخب المتعلمة بل حتى تسخيرهم ليكونوا أدوات للشر، وربما أكثر انغماساً من الشعوب المتخلفة في الانسياق المعطوب، فهل ثمة من ذلك في حالة النخب السودانية؟ ربما! يتضح إفراط تلك النخب في الادعاء، عندما يبدؤون في التحدث بأجزاء كاملة من مفردات العلماء القدامى التي ألقيت في أفواههم، مثل الشخص الذي يتقيأ طعاماً نيئاً دون الهضم اللازم، لأن الإدراك يتطلب مجهوداً ذاتياً وفهماً عميقاً، وهو مشابه لحاجة النحل للجهد الداخلي وكذلك الوقت لتحويل الرحيق إلى عسل، أما النخب السياسية السودانية فهي بعيدة كل البعد عن جهود النحل، فيما معاول الهدم بأيديها جاهزة للعمل بشكل مكثف.


تبقى إشكاليتها بكل تصنيفاتها هي الفهلوية والبهلوانية العشوائية، فهم لا يشغلون عقولهم في البحث عن الحلول المتكاملة والتخطيط الاستراتيجي، ولا يستغربون عندما يواجهون المجهول إذا ظهرت مشكلة أمامهم، فإنهم يصنفونها ويعطونها اسماً، ثم يمضون في طريقهم إلى ممارسة ما يفعلون، معتقدين أنهم حلوا المعضلة بلا مبالاة مفرطة.

عظمة الإنسان لا تقوم على أعماله الصالحة فحسب، بل في قدرته على الاختيار، وكل من يقلل أو يحد من هذه القدرة يحط من قدر الإنسان، القراءة المبالغ فيها لا تجعلهم أذكياء اجتماعياً، وكثير من النخب السودانية تفعل ذلك دون استراحة تفكير ضرورية لهضم المرتل، فبدون البصيرة اللازمة لهضم الأفكار ومعالجتها واستيعابها وإنزالها على أرض الواقع لن تتقدم البلاد شبراً.