الثلاثاء - 19 مارس 2024
الثلاثاء - 19 مارس 2024

الفلسفة.. القلق واللقاح

أصبحت انشغالات الفلسفة ما بعد كوفيد-19 قراءة ما حدث في علاقته بكينونة الإنسان ووجوده، الذي أصبح مضطرباً، خارجاً عن نسق النمط الاعتيادي لمعيش موروث منذ قرون.

ولئن كان الحجر الصحي قد شكّل قطيعة تاريخية ووجودية ما بين عالمين يختلفان في نوعية فقدان الثقة في المحيط الشامل، وفي نوعية القلق الذي جعل من الموت بكورونا هاجسه الأول، فإن رفع الحجر وما بعده دفع بالعالم إلى التفكير في تدبير «ما تبقى من الحياة»، التي تعني العودة مجدداً إلى الشارع والتواصل الاجتماعي.

تأتي تسمية «ما تبقى من الحياة»، من تبلور إحساس جمعي بنوع مختلف من القلق يقوم على هاجسين متناقضين، هاجس «ترقب» الموت بالوباء في أية لحظة، وهاجس فقدان الحرية أو تشوه الطبيعة الخلقية للفرد عن طريق التلقيح كما روّجه كثير من علماء المختبرات والفيروسات، ويعني أن هذا القلق الطارئ مركب من خوفين وجوديين لم يسبق أن عرفهما الإنسان من قبل.


الخوف من المرض (الفيروس) والخوف من المناعة (التلقيح)، وأصبح الخوف الأخير مبني على حجاج علمي مشتبك بالخلفيات السياسية، حيث أصبح التشكيك في التلقيح مدخلاً لتوهان بنيوي لدى الفرد وعتبة لفوضى العالم، لما يقول بعض العلماء بوجود تأثير سلبي للتلقيح على الجينوم والحمض النووي، ويرد البعض الجيني بأن أطروحة التأثير السلبي غير دقيقة، فهذا يعني أن هناك مشكلاً حقيقياً في توحيد الخطاب العلمي الذي تفترض فيه الوحدة والانسجام، لأنه في الأصل خطاب تقني موضوعي لا تحكمه أهواء الذات.


أمام هذا التجاذب، من الطبيعي أن تختل ثقة الفرد في كل شيء، حتى في ذاته على حد تعبير «جاك أتالي»، وإننا بذلك نعيش عصراً حرجاً يضعنا في مفترق الطرق ما بين اتجاهين: اتجاه يجعل من اللايقين مدخلاً إلى فقدان الثقة في المنجز العلمي للإنسان، واتجاه ثانٍ، يقوم على تبخيس المؤسسات، ومن ثمّ حدوث دورة انتكاسية للفرد بانحرافه إلى السحر والخرافة.

أمام هذين الاتجاهين تتساءل الفلسفة عن الكيفية التي يكون فيها الفرد قادراً على استيعاب هذا المخاض المستجد، بما يجعل ثقته في الممكن الطبي راسخة ومحكومة بمطلب الحداثة، غير أن تساؤلها لا يتجاهل الأدوار السيئة التي سقطت فيها السياسة وهي تحشر مسألة اللقاحات (العلم) في حساباتها الضيقة التي عمقت آفة اللايقين وأثارت أفعالاً نكوصية مريبة، كما حدث مع لقاح «أسترازنيكا» وما سبّبه من جدل في الاتحاد الأوروبي.

نكاد نجزم بأن النقاش حول اللقاحات لم يطرح في سياقه الصحيح، ولم توضع له شروطه الأخلاقية في تفسير مكوناته التركيبية وضوابطه العلمية، وهذا ما أدى إلى فوضى عارمة في بداية انطلاقه، كانت أصلاً في تعطيله وإزهاق كثير من الأرواح بفعل التباطؤ والتشكيك المرتجل في جدواه.