الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

من الديمقراطية إلى «التوليتارية»

يحاول الفيلسوف الفرنسي كلود لفورت أن يربط بين الديموقراطية و«التوليتارية» أو الشمولية، لما اعتبر أن تضخم الديمقراطية يؤدي إلى الفوضى وإلى صعود الحكم الشمولي.

تعود هذه الفكرة إلى الأطروحة الكلاسيكية اليونانية بتنصيصها على أن كل غلو يصيب الديمقراطية يُفقدها معناها السياسي وينحرف بها إلى الجبروت، لكن إضافة لفورت تكمن في التنبيه إلى أن التسليم بالترابط الآلي بين الدولة والمجتمع من منظور فوقي وإقصاء التعبيرات الاجتماعية الداخلية المستقلة بآرائها، هو تسليم مباشر بالتوليتارية، لأن التوليتارية لا تفترض مفهوماً للمجتمع إلا ما ينسجم مع مرجعياتها وأهدافها، ولا تقبل المغايرة التي تمثلها السلطة المضادة إلا إذا كانت شكلية وقابلة للاستعمال والتوظيف من طرفها.

بهذا المعنى، ذكر الفيلسوف الفرنسي «التوسير» أن هيئات المجتمع المدني والسياسي والصحافة والنخب المثقفة، التي تقبل وظيفة الاستعمال و«السخرة»، تُعد من أقوى العوامل المرسخة للتوليتارية، لأنها لا تقوم بدورها التاريخي في تشكيل الوعي المضاد ولا تنتصر للمجتمع الذي يفرز الدولة الوطنية، ولا للدولة التي تحترم تعاقدها مع المجتمع.


إنها هيئات ريعية فقط، تضر بالدولة والمجتمع معاً، فلا هي قادرة على أن تلعب دور الوساطة بينهما، ولا أن تمارس نقدها الموضوعي للدولة كسلطة مضادة، ومن أخطر الأدوار التي تلعبها هذه الهيئات الريعية، إما إيجادها لتبريرات شعارية دفاعية عن النظام التوليتاري بحجة الدفاع عن سيادة الدولة وهوية الانتماء المحلي، وهي بذلك تزيد في عمى هذا النظام على حساب الاستقرار الاجتماعي ورفاه أفراده، وإما تضخيمها لديمقراطية الواجهة فتمسخ معانيها وتصبح مبتذلة لدى المجتمع، ما يدفع أفراده إلى الاستنجاد بالدولة مهما كان شكل نظامها السِياسي.


هكذا جاءت الدعوة في مختلف بلاد العالم، خاصة بعد الوباء الأخير، إلى العودة إلى مركزية الدولة دونما أي اهتمام بمؤسسات الوساطة، وأصبحت فكرة الاحتماء «السلبي» بالدولة تُعد نتيجة لفعل تلك الهيئات الريعية التي استطاعت أن تنمط الوعي الجمعي في اتجاه إحباط الأفراد وتبخيس القيمة السياسية والحضارية للديمقراطية.. فهل هذا يعني أننا بصدد توليتارية جديدة مُتحوِرة من الديمقراطية؟

يكاد الأمر يكون كذلك في ظل عجز فكري وسياسي أمام استيعاب ما يقع، وهل له القدرة على تقديم تفسيرات وحلول لهذه التحولات الكبرى؟

إن حماية الديمقراطية حسب لوفوت لن تتحقق أبداً بالتماهي مع أدوار الدولة، لأن الدولة مهما زعمت الديمقراطية تسعى دائماً إلى خرقها بمبررات مختلفة، ومنها مبرر شرعية احتكار العنف.

إن حماية الديمقراطية من التوليتارية تبدأ بخلق مسافة مع الدولة، واعتبار مبدأ التعاقد معها مبدأً يؤطره النقد وشرعية السلطة والسلطة المضادة.