السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

ثلاثاء بيروت

يروي أحد الكتاب اليابانيين، أنه وشقيقته الصغيرة، كانا يقفان على تل يبعد بمسافة آمنة عن مدينة هيروشيما، وشاهدا معاً لحظة تصاعد نبتة فطر هائلة نحو السماء.. يقول الكاتب: «منذ ذلك اليوم رأيت الإنسان على هيئة دخان بحجم غيمة».

وفي يوم الثلاثاء الماضي، خيمت على منطقتنا غيمة جديدة، ومسرحها هذه المرة سماء عروس البحر المتوسط، بيروت الاستثنائية، تلك المدينة التي نسافر إليها لنكتب الفصل الشيق من ذكرياتنا، والتي تحمل فيها صورنا الفوتوغرافية ابتسامات لانهائية، عميقة ولذيذة ومسترخية.. بيروت التي تحتل لاوعينا الرومانسي وتملؤه بالموسيقى والأغاني وفيروز.

بيروت في لحظات خاطفة تفقد صورتها، وتتحول إلى هذا الركام الهائل من الخراب، في ملحمة رعب لا تطالها مشاهد السينما، ولا تقترب منها خيالات الدمار الروائية.

في اللحظة الأولى، حيث يتوقف التحليل والتأويل وقراءة السبب والنتيجة، نستمع بحزن إلى صراخ الضحايا وموتهم الصامت من شدة العصف، إلى شعور اللبنانيين بهول الكارثة.

في العراق، نحن أبناء الهيروشيمات المتوالية، نتجاوز الصورة في التلفزيون إلى الواقع مباشرة، إلى قلب الحقيقة الدامية.. إلى جحيم الألم بالوجع والفقدان.. نستذكر مآسينا ونراكمها في تل الحزن الذي نجلس فوقه ونراقب النبتة العملاقة التي تشق طريقها نحو سماء بيروت، كأنها شهقة الضحايا دفعة واحدة.

فما تخلفه الصور الأولى هي مجموعة مشاهد مهولة، نحن نعرفها في الكرادة وبابل والموصل وفي مدن الوطن كلها.. نحن خبراء في تصور حجم الكارثة، خبراء في الدموع التي تعقبها، خبراء في الحزن الذي لا تستطيع كل تلفزيونات العالم أن تقوله بوضوح، لذلك نحن نفتش عن وجوه الضحايا لا عن الأرقام، عن خوف الأطفال لا عن تهدم البنايات، عن فجيعة الأمهات قبل تصريح الخبير العسكري.

نفتش في التفاصيل عن الإنسان غير السياسي، الإنسان الذي لا يهمه تقرير محللي نشرة الأخبار، ونراقب عاملة المنزل التي انتشلت طفلة بريئة من فم الموت، عن ممرضة تحمل على صدرها 3 من الأطفال حديثي الولادة، عن رجل الدين الذي يهرب من سقف تحطم فوق تلاوته، عن عروس تلتقط صورة للذكرى فتغيب المدينة من خلفها.. إذا لم نفتش عن هؤلاء أولاً، علينا أن ننتبه بحذر ونبحث عن إنسانيتنا.