السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

الرواية.. أكثر من صدى مجتمع

الرواية أدب لا اختلاف على ذلك، ومن هنا ليس السياسي أو الاجتماعي أو النفسي أو الأيديولوجي أو غيره، هو المعيار لقياس درجة الجودة والنجاح.

الأدبية «La littérarité» هي جوهر الفعل الأدبي، وهي ما يحرر الرواية وغير الرواية من يقين الأيديولوجيا وجانبها التدميري الذي يحصر المنتج الفني في الخطاب الوثوقي، لا توجد حيادية في المطلق طبعاً، كل شيء يخضع لمنظومة سابقة عليه وتؤثر فيه بقوة.

لأنه، ببساطة، لا يوجد في النظام الفكري والثقافي البشري ما ينشأ من العدم، النص هو ثمرة كتابة لها تماس عميق بالذات الإبداعية الخاضعة لكل التحولات النفسية المعقدة، ولها تماس أيضاً بسياقات مجتمعية عامة، تتحكم فيه المؤسسات المحيطة به، أي أن النص الروائي لا ينشأ خارجها، وهو ما عمل عليه الباحث الاجتماعي الفرنسي بيير بورديو Pierre Bourdieu، وأطلق عليه تسمية الحقول الثقافية والأدبية، التي تفرض نفسها مسبقاً كشرطيات أساسية، على الفعل الثقافي أو المنجز الأدبي.


السؤال الكبير في هذه الحالة، هو كيف يفلت الكاتب الاستثنائي من أسرها الثقيل؟.. النص كمنجز معقد أكبر من الحيادية أو نقيضها، ما يقتضي بحثاً عميقاً في العناصر الصغيرة المشكّلة للنص، والتي تجعله يتفرد بهروبه من هذا «القدر» القاتل للإبداعية والأدبية، ما يشترط على الرواية أن تواجه سؤالاً مركزياً مهماً وحاسماً: كيف تستطيع هذه الأخيرة في النهاية، تحويل كل هذه التفاصيل الحياتية المعيشة إلى مادة أدبية؟


وينتهي سؤال الحيادية إلى إعادة صياغة معطياته: هل استطاع النص الروائي أن يخرج من أسر العلاقة المباشرة التي تحول الإبداع بكل تعقيداته إلى مجرد مادة اجتماعية، هي ليست أكثر من صدى للمعيش.

النص الروائي أكبر من هذا وذاك، هو إعادة صياغة لعالم مادي متحول إلى سلسلة من الافتراضات، التي لا وجود لها عملياً في الواقع الموضوعي، إلا داخل النص.

إن العبقرية الأدبية وفق لوسيان غولدمان، هي القوة الاستثنائية التبصرية التي تجعل من رؤية العالم لكاتب ما، وسيلة لتخطي المعطى التبسيطي للأدب، باتجاه ما هو أكثر أدبية وأصالة، حتى لو تناقض ذلك مع قناعاته الشخصية والخاصة.

ولنا أمثلة في التاريخ، بلزاك مثلاً، أهان الطبقة الأرستقراطية التي كان ينتمي إليها حياتياً، لحساب الطبقات الأكثر انكساراً وفقراً، فدافع كتابياً عمن كانوا في حاجة إلى صوته لرفع الظلم عنهم، لم يكن أدبه مجرد صدى لقناعاته الخاصة، وينطبق هذا أيضاً على تولستوي الذي عاش في مجتمع القنانة والعبودية ورفضه كلياً، وأدان الوجاهة الإقطاعية والإدارية الكاذبة لطبقة كان ينتمي إليها، في «أنا كارنينا»، منتصراً للحب حتى لو تناقض ذلك مع الأخلاق المنقذة للإنسانية.

الأدب العظيم هو الأدب الذي يتخطى الثنائية «واقع ـ ذات»، باتجاه عنصر ثالث ينشأ من أعماق النص الفاعل والأدبي بامتياز: الأدبية التي تعني بنية النص نفسه من خلال مكوناته اللغوية والجمالية، ومرجعياته الفنية، أولاً وأخيراً.