الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الكتَابة.. وصُدفُ السحر الأسود

عندما نقدم على كتابة رواية، لا نعرف المآلات، ولا كيف تنتهي بنا مغامرة الكتابة التي كثيراً ما تكون مفاجئة.

عندما انتهيت من كتابة رواية الأمير، وقدمتها في بوردو في طبعتها الفرنسية، في الكنيسة التي زارها الأمير برفقة صديقه القس أنطوان ديبوش (1800 - 1856) الذي جمعته به صداقة كبيرة مع الأمير عبدالقادر الجزائري، بعد إطلاق الأمير الـ100 سجين فرنسي بسبب رسالة من الأسقف.

وبعد انتهاء المحاضرة تقدمت نحوي سيدة في الأربعينات من عمرها، حيتني بحرارة. قالت: شكراً سيدي أنك تذكرت جدي أنطوان أدولف ديبوش، وجعلته بطلاً برفقة الأمير، ووضعت من خلالهما التسامح الديني على المحك، وانتصرت للخير، أنا الحفيدة الأخيرة لأنطوان ديبوش، هزتني بقوة.


ثم منحتني كتاباً هو عبارة عن الأعمال الجليلة التي قام بها ديبوش، كانت سعادتي كبيرة، لقد دخل أنطوان ديبوش إلى الجزائر، مع الحملة الاستعمارية في 1838، فاتحاً دينيّاً قبل أن يفاجأ بأن الجزائر مسلمة بغالبيتها العظمى.


فقد كان تحت وطأة الدعاية الاستعمارية التي ظلت تعتبر الجزائر مقاطعة رومانية ضائعة تمَّت استعادتها، رأى بعينيه الفقر والتجهيل والظلم الذي خلفه الاستعمار في سنوات قليلة، فبدأ ينشئ بيوتاً لليتامى، ومساكن جماعية للنساء الضائعات في الشوارع، وقد استدان بسبب أعماله الخيرية إلى أن اضطر إلى الهرب من المدينين له، وبقي مشرَّداً في الحدود الإسبانية ـ الفرنسية إلى أن تدخل الفاتيكان بقوة.

دافع عن الأمير أمام إمبراطور فرنسا نابليون الثالث إلى أن أخرجه من المعتقل بعد خمس سنوات، لهذا ظل هذا القس لحظة نور حقيقية، لكن ما يحدث أيضاً بسبب رواية، قد يكون مرّاً وثقيلاً.

كنت سعيداً بنجاح الرواية عربياً بعدما فازت بجائزة الشيخ زايد في دورتها الأولى، ودولياً بجائزة المكتبيين، وجائزة التسامح والصداقة، وغيرها.

فجأة وصلتني رسالة ملغمة عن طريق الإيميل، فتحتها، تقول السيدة صاحبة الرسالة فيما أذكره: شكراً لك سيدي، لقد انضممت لطابور الأعداء ضد جدِّي مصطفى ابن إسماعيل!.. ارتبكت بيني وبين نفسي، أتمنَّى لو تبعث لي الوثائق التي عثرت عليها وتؤكد خيانته لوطنه، لتقطع يده ورأسه، طبعاً الرجل كان جنرالاً في الجيش الفرنسي بميليشيات كبيرة من قبيلته، ومقاتلاً شرساً رغم كبر سنه.. بعثت لها ما توافر لديَّ من وثائق، وذكرت لها أنه اختار صفاً آخر وحارب حتى سن الثمانين برفقة الفرنسيين إلى آخر لحظة، عندما تم تدمير زمالة الأمير والاستيلاء على الغنائم وقتل الكثيرين من أتباع الأمير، ورويت لها الحادثة المؤلمة عندما جيء إلى الأمير برأس ابن إسماعيل ويده، التفت صوب الفراغ، وقال: لم أقل لكم افعلوا هذا، كنت أريده حيّاً لأعرف لماذا فعل ذلك كله بشعبه؟ وطلب بدفنه في اللحظة نفسها وفي المكان نفسه أيضاً.

تلك هي صدف الكتابة التي تزرع الدم في البشر والتاريخ، بعضها جميل، وبعضها الآخر قاسٍ، لكن في كل الأحوال تظل متعة الكتابة محفوفة دوماً بالكثير من السحر الأسود والأسئلة الغريبة.