الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

فكر الزراعة المجتمعية

في كتابه (الثقافة والمعرفة البشرية) يعرفنا ميشيل توماسيللو بذلك التطور النوعي الذي يتأسس عليه السلوك البشري والذي يفضي إلى المعرفة البشرية، وهي تلك المعرفة التي تنضوي تحتها معرفة الأشياء ومعرفة الأشخاص الآخرين، ومعرفة العدد، ومعرفة اللغة، ومعرفة البيولوجيا، الأمر الذي سيجعل هذه المعرفة وسيلة، ليست لاكتساب معارف عامة وحسب، بل أيضاً لتنظيم الحياة المعيشية، وإنتاج طرائق جديدة قادرة على بناء منظومة ثقافية مجتمعية، وبالتالي بناء حضارة بفعل ذلك التراكم المعرفي الثقافي.

لهذا فإن التراث الثقافي الذي تنبني عليه تلك الثقافات، يقوم في الأساس على مخرجات تفاعل الإنسان مع الطبيعة من حوله، سواء أكانت هذه المخرجات تراثاً مادياً أو غير مادي، الأمر الذي دفع يونسكو إلى أن تجعل من (أصناف النباتات) و(الطبيعة وطرق استخدامها) و(الحيوانات) مكونات أساسية في التراث الثقافي للشعوب الأصيلة.

من هنا تكون الأرض وخيراتها، سيما الزراعة بوصفها أحد أهم ما يمكن الاستفادة منه على سطح الأرض، واحداً من تلك الأنماط المتعلقة مباشرة بالمعرفة وقدرة الإنسان على الاكتشاف وتنظيم طرائق عيشه، ذلك لأن المجتمعات تعرفت على الزراعة ضمن هذا التكوين المعرفي المتطور الذي لا يزال ينمو بتطور العلم والوسائل التقنية الحديثة.


ومن هنا فإن الأنشطة التي ابتكرها الإنسان عبر حقبه التاريخية المختلفة دالة على ذلك التطور والتقدم المعرفي الذي سيكون، تاريخياً، تراثاً ثقافياً، فالمجتمعات طوَّرت أنماط معيشتها وممارساتها الثقافية وفقاً لمتطلبات طبيعتها واحترامها لبيئتها.


إن الممارسات الزراعية بوصفها (إنسانية) ترتبط بالمجتمعات وثقافتها وقدرتها على الإبداع، ولهذا فإننا عندما نلتفت اليوم إلى مجتمعاتنا نجد، رغم طغيان المدنية، أن الحكومات تؤسس لاستراتيجيات تفتح آفاقاً من أنماط الإنتاج، ونظم إدارة الموارد الطبيعية التي تحافظ على هذا التراث الثقافي من ناحية، وتدعم التنوع الاقتصادي من ناحية أخرى.

ولأن أنماط الزراعة ووسائلها لا ترتبط بالبعد الاقتصادي وحده، فإنها تدخل في علاقات متعددة تشكل منظومة اجتماعية حضارية تربّت عليها مجتمعاتنا، تجمع بين أفرادها صغاراً وكباراً، نساء ورجالاً، وتدخلهم في نص بنائي يجمعهم مع الطبيعة، لذا فإن منظمة (فاو) مثلاً تعتبرها نظاماً حياً للمجتمعات البشرية في علاقاته المعقدة مع المشهد الثقافي والاجتماعي والبيئي.

إن مشروعات الاستثمار الزراعي التي تتبناها دول المنطقة عليها ألا تُغفل ذلك التراث الثقافي الضخم المرتبط بهذا الحقل، فهناك الفنون والأهازيج والعادات، وأنماط الممارسات الثقافية الأخرى، التي تعد منظومة حضارية مرتبطة بالزراعة.