الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

صانع الجمال والإيحاء

في تشبيه بسيط ومثال لشرح قدرة الأدب والفن على صنع الجمال من حولنا، وتحريك مشاعرنا تجاه أمر ما أو عمل فني بعينه، قد نراه عادياً غير ملفت للنظر، لنستحضر رسمة لفتاة على بورتريه كتب عن نظرتها المنكسرة الدامعة، ونحرها الصافي الرقراق، وكتفها الذي زل عنه ما يغطيه بحرج، كما خصلات غجرية شاردة تتهاوى على خدها المورد النمش، فيما فمها مكور كخاتم لازورد يحفظ خلفه أسنان كلؤلؤ مرصوص، لو أمعنا النظر في صورتها وهي مركونة في زاوية منسية من متحف ذي إضاءة خافتة غير مناسبة لا يتحلق حولها أحد، لوجدناها عادية جداً ولمررنا بجوارها مرور الكرام دون اكتراث.

في المقابل، لو وضعت ولن أقول في اللوفر بباريس ولكن في صالة عرض لفنان لوقف بجوارها فخوراً بإنجازه العظيم، مطوقاً بعدد من الصحافيين والمهتمين بالفنون، ومعهم جمهور من الزوار أثار فضولهم التجمع حولها، بأجواء هي مزيج من الإطراء والتحليل والنظرة الأعمق المستفيضة في أبعادها ومقاصدها والتمحيص والتفحص بأدق تفاصيلها، التي استلهمت شاعراً تصادف حضوره، فنظم بها بيتاً يعبر عن جمالها الأخاذ ولمحة الحزن والوميض بعينيها اللتين منحاها سحراً يسلب لب مُشاهدها، فكانت غلاف رواية لكاتب مشهور، وجوهر تقرير لصحافي بمجلة واسعة الانتشار يتحدث فيه عن امرأة منحت الجمال شرفاً بتصويرها، ليثير بعد ذلك فضول العامة والمختصين لرؤيتها وتصويرها والتغزل بفتنتها التي هي نفسها المنسية سابقاً!

السر في الاهتمام المفاجئ حولها وتغير نظرتنا لها هو ما أضفته مقدرة الفن، ورجاله على الإيحاء بصورة ذهنية مميزة لها التقطها الآخرون، فتشكلت بمخيلتهم بعد أن تدخّل الأدب بها، لتُمنح مكانة ملفتة للانتباه، فكُلئت بالرعاية مع هالة من الفرادة والمكانة جعلت منها أيقونة يتم التغني بها حاضراً ومن ثم على مر العصور.


الآن وبعد أن أدركنا ما للأدب من قوة مثيرة للخيال ومحفز للشغف الإنساني والعاطفي، لنستحضر مجدداً الموناليزا لليوناردو دا فينشي، ولوحة فتاة ذات قرط من اللؤلؤ أو كما يحلو للكثير وصفها «الموناليزا الهولندية» ليوهانس فيرمير، ولنمعن النظر فيهما بعيداً عن كل ما قيل عنهما، ولنتساءل: هل حقاً هما أسطورتا الجمال أم جمال بعين ناظره، رسمته ريشة فنان، نال حظاً وخلدت أعماله بعد تأثير الأدب صانع الجمال ودعمه له؟