السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

صوت صديق.. ميلاد جديد

ميلادك ليس تلك الشهادة التي تحمل زمانك ومكانك، وليست الأوطان تلك التي نُولد على أرضها، وتتفتحُ عيونُنا على سمائها، ونرتشفُ من مائها، فقد يمرُّ بك يومٌ خارج وطنك، تستشعرُ فيه أنك تُولد من جديد، وبأثر رجعي لزمنٍ مديد.

أثناء تهاني العيد، ورسائل ذوي الرحم وأصدقاء ورفقاء باعدت الجائحة بيننا وبين اللقاء بهم.. هاتفني أحدُ رموز الزمن الجميل.. قائدٌ حازَ السبقَ عطاء ونزاهة وتمكيناً، يحمل بين ضلوعه رقة تشع على قَسَمات وجهه، تبعثُ فيمن حوله الاطمئنان الدافع إلى التحدي والإنجاز.

المُعلم الصديق أعادني إلى مواقف مضت من ربع قرن، فرحةٌ غامرة تخيلتُ معها أن الأمر حلم جميل أطلَّ من ذاكرة النسيان، أو حلم يقظة صاغه الحنين إلى ذكريات زمنٍ فات.


على مدى ما يقرب من ساعة، ذكرني المعلمُ القدوة بتحديات وسِجَالات اختزنتها الذاكرة، وأناسٍ تقاسموا معنا مساحات الزمن في تلك السنين، توقف معي عند ناصية موقفٍ لا يزال ماثلاً أمام ناظريه بكل تفاصيله، كأنه بالأمس القريب، حين منح معلمُنا أحدَ مرؤوسيه تقدير «ممتاز»، فجاءه اللوم من ربّان سفينة العمل، وقد عقد حاجبيه غضباً: كيف لك أن تقيّم موظفاً لم يحصل على الثانوية بهذا التقدير؟ فأجابه المعلمُ القدوة بعفوية وموضوعية: يا سيدي لو كان هناك تقدير أعلى من «ممتاز» لفعلت، ثم استأنف كلامه بثقةٍ لا تتخذّل، وأنَفَةٍ لا تتبدّل: التقدير جاء بناء على نتائج وإنجازات، ولا علاقة له بالشهادات، وأصرَّ على ما أقرَّه من تقدير خطّه بمداد الضمير، فكان يدافع عن موظفيه حتى لو كلفه الأمر أن يصير صديقاً لجدران بيته، أو على أقل تقدير أن يواجَه بنيران خصوم الإبداع والابتكار.


رغم بساطة الأمور، فإنها تكشف المستور، فالمعلمُ يدافع عن قضية الأمس واليوم التى نخرت في عظام بعض المجتمعات المهنية، وأوهنت قواها: إن كنتُ لا أمتلكُ حرية تقييم أداء العاملين معي، فلا تسألني عن نتائج إدارتي، فمن لا يملكُ مِفتاحَ بيته لا تسأله عن إدارته.

يمضي الوقت مع الذكريات بدون أن نشعر، ونستحضر معاً سنوات بناء الذات واكتساب المهارات والجدارات، يتحدث المعلم بلسان إخلاصه المعهود، وأنا أصغي إليه.. هامساً: يا صديقي الأمين، ما زالت القضايا التي حاربت من أجلها حاضرة رغم مرور السنين، تطحن برحاها كل المتميزين المبدعين.