السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

الإنسان الشّجرة

في مقاله «الوراثة البيولوجية والثقافية»، يعتقد «جورج هربرت ميد» أن التطور المعرفي الإنساني ينشأ في الأصل (عن طريق الانتخاب الطبيعي)، والذي تمثله الوراثة البيولوجية التي يرثها الإنسان عن السلف، وما تتضمنه من أداء وظيفي إدراكي وسلوكي ومعرفي، وعن طريق هذه الوراثة يستطيع الإنسان التفاعل مع بيئته، الأمر الذي يجعله ينتج مجموعة من الممارسات الثقافية والأنماط ويطوِّر في التقاليد المتوارثة والمعتقدات ضمن قدراته المعرفية.

ولعل علاقة الإنسان مع الطبيعة من حوله تكشف هذا القدر من (الانتخاب الطبيعي) الذي نراه في تلك الممارسات الثقافية المتفردة الخاصة بشعوب العالم، حيث نجد أن لكل شعب أو مجتمع طريقته الخاصة في التواصل مع الطبيعة، كتلك الممارسات والأنواع الثقافية التي يؤسسها الإنسان مع البحر أو الجبل أو الصحراء أو النبات.

وإذا كانت علاقة الإنسان مع البحر والجبل والصحراء علاقة هيمنة وقدرة بفعل احتواء هذه الأنماط الطبيعية على الفضاء الكوني من حوله، فإن علاقته مع النباتات مختلفة لأنها تمثل على الدوام الغطاء الأخضر الذي يسكن فيه، وربما هذه العلاقة تفسر ما ذهب إليه المسعودي في كتابه «مروج الذهب» من ذلك التشابه بين الإنسان والشجرة حيث قال: (إن الإنسان شجرة مقلوبة، والشجرة إنسان مقلوب).


ولقد أنتج الإنسان في علاقته التواصلية مع النباتات والزراعة بشكل عام مجموعة من الأشكال المعرفية الثقافية، سواء أكانت مرتبطة بتلك الأهازيج التي ينشدها فرادى وجماعات أثناء مواسم الزراعة بأنواعها مثل الشلات المعروفة أثناء موسم النخيل، فهناك أهازيج خاصة باللقاح (التنبيت) وأخرى بـ(التحدير) وثالثة بـ(الجداد)، وحتى مراحل التجفيف والتخزين بأنواعها، أو تلك العلاقة المرتبطة بالمعتقدات كالتبرك بالأشجار المعمرة، أو برمزية النباتات في أداء العديد من الفنون الشعبية، كما هو معروف في حمل مجموعة من الشتلات أثناء أداء فن النيروز في عُمان، وفن الباكت وغيرها، كما نجده في الطب الشعبي حين يقوم الشيخ بتمرير غصن شجرة على جسد المريض عندما يقرأ عليه القرآن، أو يطببه من مرض ما.. إن رمزية النباتات تختزل مجموعة من المعاني والقدرات الدالة على الأمان والسلام.


هكذا سنجد اليوم أن خبراً مثل (إقامة دار ليسيو ببرشلونة حفلاً موسيقياً لجمهور من الشتلات النباتية)، يعيدنا إلى تلك العلاقة الإنسانية التي تجمعنا مع النبات، خاصة في ظل هذه الظروف الصحية، حيث تمثل صورة التواصل المباشر بين الإنسان وما حوله من الطبيعة، فالنبات هو غطاء الطبيعة الآمن الذي يتكامل مع حاجات الإنسان.