السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

الطيور لا تستأذن قبل أن تطير

ليس أشد ألماً من العقوق الصامت المبهم تجاه من هم أصْل البنيان، وليس أشدّ كمداً من أن يرى الإنسانُ أقربَ الناس إليه أبعدَهم عن الإنسانية، والفطرة النقيَّة.. يمجّدون منصاتٍ وشاشاتٍ زائفة تسوقهم خلف أوهامٍ وأضغاث أحلام، مفرّطين بقيَم «الإحسان» و«البرّ» و«التواصل» و«السؤال» عمن وهبوهم الحياة.. وهنا أستحضر الرائعة الشكسبيرية «الملك لير»، حين صدح بقلب مكلوم بعد توزيع مملكته على بناته، وخذلانِ بعضهن: «ليس أشد وطئاً من لدغة الحيّة الرقطاء سوى العقوق والنكران».

نزلت بِنا الجائحة من حيث لا ندري، لتمنحنا فرصة الوصال عمن شُغلنا عنهم، أو قصّرنا بحقهم، لنتحصّن بطاعتهم، بعدما سلبتهم صروفُ الزمان نضارتَهم، وأبرى الهجرُ والنكرانُ عظامَهم، فإذا بها لم تغيّر شيئاً بمن «قست قلوبهم»، و«تبلّدت مشاعرهم»، و«غابت ضمائرهم»، وشُيّعت «إنسانيتهم» إلى مثواها الأخير، ليتركوا في القلب جُرحاً غائراً لا يندمل.. هم أشبه بكائنٍ افتراضيّ، حضوره كغيابه، شريانه متجمد بلا حياة، لا يعبأ بدفء الوصال مع والدَين هرما في تربيته، وأجدادٍ تبدّدَت أعمارهم في إعمارِ حياته، وقد شارفوا على الرحيل حين تأذن الأقدار.

سألني أحدهم: ما سرُّ تزايد العقوق بين جيل الأحفاد رغم أنهم في رغدٍ من العيش مقارنة بالآباء والأجداد؟.. قلت له: سيدي! «الطيور لا تستأذن قبل أن تطير»، فطيور النبالة والعطاء والنقاء وهامات الكرامة وينابيع العزة لا تطلب من طيرٍ عاش في أكنافها صغيراً مدللاً، رعته القلوب قبل العيون، حتى اشتدّ عودُه، واستوى على سوقه، ليحلّق ويطير بمهارة أن يكافئهم بالبرّ والإحسان، فنوعها نادرٌ تلك الطيور التي تعود لأصلها مهما حلّقت بعيداً، أما بقيَّة السرب كالغربان الجائعة، تجوب البقاع سعياً لملء معدتها.. صوتُها نعيق، ومسلكُها النكران، ودأبُها طولُ الهجرِ والخذلان.


الأجداد الكرماء لا يستجدون مَن يتنكّرون لهم لحظة عطف، أو لمسة حنان، أو تطييب خاطرٍ، أو طلب وصال جبري معهم عبر دعوى قضائية لاستجداء حقوقهم المنسية.. هم إن لفحهم لهيبُ الإعراضِ، ونيرانُ الجحود، وصقيعُ الخذلان من الأبناء أو الأحفاد، يُبادرون للرحيل بصمت الزاهدين المترفعين، فقد وصلتهم الرسالة: «ارحلوا لنتذكرَكم.. وصالُكم مؤجلٌ حتى الرحيل»، ليمنحوا الأحفاد إبداعاً منقطع النظير في نقل وقائع المأتم، وتأثراً مصطنعاً، ومآثرَ تتناقلها منصات التواصل بحروف النفاق، ليواصلوا خداعَ الذات برداء العقوق حتى تدركَهم نيرانُه.