السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

الرحمة سبقت العذاب

في زمن خلافة عمر بن الخطاب كان هناك شاعر مخضرم اسمه: أبومُلَيكة جرول بن أوس بن مالك العبسي المشهور بـ«الحطيئة»، قضى أغلب حياته متدافعاً بين القبائل، يتقرب إلى من يرى فيه المنفعة، فيمدح من يكثر له العطاء أو من يخاف بطشه ويهجو من لا يعطيه ما يريد، حتى أصبح الهجاء مَلكةً خاصة، ولم يلبث أن استعملها أداة للكسب أكثر من وسيلة لرفع الشأن والقدر، ويكفي أن يرميك الحطيئة ببيتين من الشعر حتى تصبح (مسبّة الدهر ومعرة العمر)، فكان بعض الناس يتجنبونه خوفاً منه ومن شعره، والبعض الآخر كان يسايره عن طريق تقديم الهدايا والعطايا له.

زاد الحطيئة في النَّيل من أعراض الناس وسمعتهم فضاق الناس به، وأبلغوا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فسجنه في حفرة في الأرض، حاول الحطيئة استعطاف الخليفة ولكن عمر رفض حتى جاءه بعض الصحابة يتشفعون له مع قصيدة للحطيئة، يسأل فيها أمير المؤمنين العفو عنه فقال:

ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ


حمر الحواصل لا ماء ولا شجر


ألقيت كاسبهم في قعر مظلمةٍ

فاغفر عليك سلام الله يا عمر

وهنا يسترحم الشاعر لنفسه عن طريق أطفاله الصغار وأنهم قد يموتون من الجوع، لأن أمير المؤمنين سجن أباهم فأصبحوا من بعد سجنه مشردين، رقّ قلب عمر على حال أطفال الحطيئة ولكنه هدده وتوعده، وأخذ عليه المواثيق ألا يتكسب بأعراض الناس.

وضعت العقوبات في المجتمع لردع المخطئ، ولكن يظل العقاب في حدود الممكن والمعقول، والشخص المتهور أو غير المسؤول، وغير الملتزم بالقوانين العامة أو قوانين المرور لا يفكر عادة في تأثير الغرامة المالية بقدر متعته وعدم اكتراثه بالنظام، وميله الذاتي إلى التسبب وعدم الانضباط أو لنتيجة نقص الوعي المروري لدى هذه الفئة.

ولكن هؤلاء في مجتمعنا يعدون (قلة القلة) ولا يُحكم على الأغلبية بالقلة، فهناك صاحب العيال الذي انقطع رزقه ولا يعلم كيف يدفع لمأكلهم ومشربهم أو إيجار مسكنهم، وهناك التاجر الذي خسر تجارته وعليه التزامات لدى البنوك ولا يعلم كيف يسددها، وهناك الذي لديه مشكلات عائلية وغيرهم في المجتمع وربما (يسهون) ويفقدون التركيز أثناء قيادة السيارة فيرتكبون مخالفة.. في السابق كانت المخالفات والعقوبات رادعة (ومؤلمة) للكثيرين، ولكن يبقى الطائش الذي لن يهتم لو كانت الغرامة 5000 أو حتى 50 ألفاً، فرفع الغرامات بعشرات الآلاف لن يوقف المجرم، ولكن سوف يُهلك البسيط المخطئ، والرحمة تسبق العذاب.