الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

أحكام بلا وعي

تُرى كم واحداً منا أصدر أحكامه الجائرة غيابياً، ضد شخص لا يعرفه، ولم يلتقِ به بعد، لمجرد أن صديقاً له، نقل «انطباعه الخاص» عنه؟

لا ننكر أن كثيرين منّا بنوا آراءهم الشخصية عن أشخاص لا يعرفونهم، مستندين على أسانيد ضعيفة، ما هي إلاّ أحاديث إفك تتأرجح ما بين «سمعنا» أو«يقولون»، فنشحذ الألسن لنُعلّق لهم المشانق، ونطعن في تاريخهم، ونغرز خناجرنا في سيرَهم؛ ليغرفوا هم من حساتنا، ونكتسب نحن سيئاتهم!

الأوبئة الاجتماعية الجديدة، كالحسد، والغيرة، وحب الاستحواذ، والغيبة والنميمة، والنفاق، وحب التسلق، استطاعت أن تفسخ عرى المودة والتسامح، والتراحم بين الناس، حتى أصبحوا لا يذكرون معروفاً، ولا يحفظون وداً ولا عِشرة، وصارت القلوب أضيق من القبور، فما عادت تتسع لعتاب، أو خلاف، ولا تغفر الزلل.

إلغاء العقل، وإصدار الأحكام على الآخرين جُزافاً، بلا تمحيص، ولا مسوّغ، أو بينة، واتباع القطيع في بناء آرائنا الشخصية ليس من العدل، ولا المروءة، ولا الإنسانية في شيء، فلربما الذي نقل لك ما يسوء عن أحدهم لا يريدك أن تتقرب منه، أو يخشى أن يتكشّف لك ما كنت تجهله عنه، ولا يعلمه إلاً الطرف الآخر!

فليس من المنطق أن نحاكم البشر من قبل أن نلتقيهم، أو نخوض تجربتنا الخاصة معهم، فالعلاقة بين الأشخاص تتفاوت بحسب عمقها، وتجاذباتها، والمشترك الذي يجمعها، فأسباب إصدار الأحكام تتفاوت من طبيعة «علاقة» عن «علاقة»! فهناك أشخاص قد تتملكهم مشاعر الغيرة تجاه أصحابهم ويتوترون ويرتعدون خوفاً على مكانتهم أو «حظوتهم»، حينما يلمحون شخصاً جديداً قد تعدّى على «ممتلكاتهم» الخاصة الأثيرة؛ وساوس الشيطان تتجاذب في عقولهم وقلوبهم.

الثقة في النفس، البعيدة عن النرجسية، والأنانية، تلعب دوراً مهماً في استقلالية آرائنا، وفي استقرار علاقاتنا الإنسانية، وتجعلنا أكثر موضوعية وحيادية في إصدار أحكامنا على الآخرين، فأحياناً الآخر يلتزم الصمت ليس لأنه لا يملك رداً ليدافع به نفسه، ولكن مراعاة لمشاعر الآخرين حتى لا يؤذيهم، أو يحرجهم، وربما لا يريد أن يخسرهم، فهل نتعظ، ونُكبّر عقولنا، وقلوبنا ونوقظ ضمائرنا قليلاً؟ ونتذكر قوله تعالى: "مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18 سورة: ق ـ الآية: 18)".