الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

الحبُ يُطيل في الأعمَار

كلما هزَّ الموت يقين الحياة فينا، تساءلنا: هل نموت حينما نموت؟.. هل ننتهي ونعود إلى السماوات العليا لنستقر إلى الأبد، في نجمتنا السرية التي ظلت زمناً طويلاً تنتظر عودتنا؟ وهل نموت حينما تسندنا الأيادي في عمق قبر لا شيء فيه يثير إلا برودته وضيقه على أجسادنا الهشة؟ نأتي ثم نعود فقط لنقول لسلطان الأكوان إننا عبرنا من هناك؟ إذن ما جدوى العبور؟

في الدنيا متسع لكل شيء حتى للألم الذي ينتابنا ويسرق منا الفرح القليل، نأتي وننزل كما لو أن الدنيا تبدأ منّا، ننام في يقين من يملك ما لا يملك، عندما تكتمل دورة الشهر التاسع نتهاوى كتفاحة سقطت من أعلى الشجرة بلا صوت الارتطام، ننزل فجأة من رحم موجوع، جرحناه كثيراً ونحن نلعب في مائه بعيداً عن المخاطر التي لا نسمع إلا دويّها البعيد.. نفتح أعيننا بصعوبة على نور قوي يخترق الأغشية النائمة، عيوننا المرتعشة، مخلفاً صفاء غريباً: أهذه هي الحياة التي يتحدثون عنها؟ ثم نصرخ فجأة الصرخة الغامضة التي تحرر الصدر من شيء مظلم، ظل مكتوماً، ثم نبدأ دورة الحياة وكأننا وحدنا من نملك الكون، تنام في أكُفّنا أرقامه السرية وإشاراته ووسائط تسييره، ونظن أن كل ما يحيط بنا خُلق لنا وحدنا دون غيرنا، لكن نكتشف فجأة أن كل ما ملكناه يُسحب بصمت من بين أيدينا، ويصبح يقيننا وهماً.

الحياة ليست أماناً مطلقاً، نكتشف الدموع في غفلة منا، فنتعلم كيف نبكي المرارات الثقيلة والفقدان، نخسر بلا سبب من نحب، ثم نفقد من منحونا النفَس الأول في الحياة.. وتتضاءل فكرة أن من نحبهم يستعصون على الفجيعة!


لم تكن الحياة ممكنة دون النفس الأول، وخارج صرخة الولادة، ولم تعد ممكنة بعد أن يُسرق النفس الأول لينام الجسد داخل تربة الأبدية، ونتساءل في عزّ الخيبة: ما الحياة؟.. هل يُعْقل أن تكون مجرد لحظة عبور يتحكم فيها ناموس لا سلطان لنا على إرادته؟.. نكتشف ونحن ننسحب بصمت من حيث جئنا، أننا بعد هزات القبر الأولى، وظلمة التربة الطرية، نصبح فجأة غباراً تبعثره رياح الأكوان السرية أنّى تشاء، حتى الأمكنة المتخفية، في ظل شجرة تنبت رطوبتها فطراَ هشّاً، أو نركب جناحي فراشة تنساها داخل زهرة امتصت رحيقها، أو داخل الفجوات البركانية حيث رماد ساخن يبرد علينا ويجعل منا ورده الصخري أو ياقوته الثمين، أليس الرماد أصل الماس؟ ثم يصعد طلع غبارنا الخفيف مثل رذاذ فجري، نحو السماوات العليا، فيكبر ويتسع في شكل نجمة ترصع سماء واسعة قبل أن ترسم خيطاً من رماد وتضمحل في سرّ الأكوان، مشكّلة نوراً وكائنات تعطي للحياة مبرر وجودها واستمرارها.


ما قيمة الحياة بلا لمسة تهزها؟ بلا يدٍ حانية؟ بلا شدو يأتي من بعيد، وبلا ابتسامة شجية؟ الحب يطيل في الأعمار، هنا وهناك، لا يمكن للموت أن يسرقه، في النهاية نحن لا نموت إلا قليلاً.