الجمعة - 26 أبريل 2024
الجمعة - 26 أبريل 2024

العقل.. ما بعد عصر الأنوار

ربما ستتحقق خلال هذه العشرية من هذا القرن نبوءة الفيلسوف الألماني «هيدغر» بحدوث عصر أنوار جديد، يكون الإنسان بموجبه ملزماً بإحداث قطائع جديَّة مع كثير من مسلّماته العقلية والعقدية التي كانت إلى عهد قريب حقائق تضبط حياته المعاصرة، وتنشد أفق الحداثة كمقابل للتقليد الأوروبي المحكوم بشرائع الكنيسة المناهضة للعقل والحرية.

لا يعني هيدغر بعصر أنوار جديد التنكّر لفضل العقل الأنواري الكلاسيكي، وإنما إنبات عقل مستمر من سالفه له طابع التجاوب والقدرة على رفع التحديات المرتبطة بتغيُّرات التاريخ والمجتمعات وحاجات الأفراد.

إن حتمية «الأنوارية» الجديدة، فرضتها أسئلة طارئة على الإنسانية اليوم، مثل: إشكاليّة التعصب الديني والعنف، انبعاث النزعات العرقية والإثنية الممثلة في اليمين المتطرف، نشوب حروب لم تنقطع منذ القرن الماضي، فشل السياسات العامة والأزمات الاقتصادية التي سببتها الليبيرالية المتوحشة، انفجار عصر الفيروسات وتجذر اللايقين الذي أصبح ظاهرة جمعية كونية، ثم اندحار القيم التي شكّلت هوية طارئة على الإنسان المعاصر، ما تسبب في اختلال الموازين عبر تفشّي الرداءة وتسيّد الشعبوية.


ما لم يتم الإجابة عنه، كيف حدثت كل هذه الآفات التي مست عمق الإنسان في ظل عقل جبار وليد عصر الأنوار، كان له الفضل في خلق المعجزات التكنولوجية والرقمية؟ أو بالأحرى كيف أصبح العقل اليوم غير متوازن ومتناقض؟


لا بد أن نعترف أمام هذا اللبس والغرابة والفجوات الوجودية، أن العقل الذي ينبني عليه هذا العالم قد أصبح مخبولاً، أو بتعبير الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز «عقلاً استنفذ عقلانيته»، لأنه أصبح عاجزاً عن خلق التوازنات الكبرى بين الإنسان والطبيعة وبين الإنسان ونظيره.

من هنا تأتي قوة هيدغر في حديثه عن ضرورة انتقال الإنسانية إلى عقل مختلف أو إلى عقل ما بعد «عصر النوار».

كتب فريدريك إنجلز أن الذكاء البورجوازي المكوّن من قوانين الفيزياء وعلم التشريح وعلم الفلك، أعطى وجوداً واقعياً للثورة الفرنسية، ومكّن من مؤسسات عقلانية خادمة للإنسان بالمقارنة مع الماضي، لكن شدّد على أن نظرية المعرفة ليست ثابتة وأن تجدد الأزمات يفرض تجدد العقل، كل عقل لا ينطلق من إنسانية الإنسان ومن العدالة الأبدية يسقط في العماء والبربرية، وهذا ما جعل ديكارت في «مقالة في المنهج» ينتقد العلم المتمحور حول ذاته الذي لا يدعم معنوية الإنسان وحريته.

وعليه، كل الحلول التقنية التي يبشّر بها العالم اليوم لإخراج الإنسان المعاصر من أزماته، تبقى فوقية وموسمية إذا لم تنطلق من تفكير أعمق يؤسس لعقل ما بعد عصر الأنوار.