يحتفل التلفزيون الأمريكي وعشاق الدراما البوليسية هذا العام بمرور نصف قرن على واحد من أشهر المسلسلات البوليسية في العالم، وهو مسلسل «كولومبو» الذي أنتجته استوديوهات «تلفزيون يونيفرسال» وبثته محطة NBC وعشرات من القنوات التلفزيونية العالمية في 44 بلداً، على مدار 10 مواسم متتالية امتد بثها بشكل منتظم من 1971 حتى 1978 ثم انتقلت إلى محطة ABC لتعرض منذ 1989 حتى 2003، وقد أحدث المسلسل نجاحاً مدوياً وحصد عشرات الجوائز، وتحولت شخصية كولومبو إلى أسطورة، كما تحول بطله بيتر فولك إلى أيقونة في أمريكا وخارجها، وفي إطار هذا الاحتفال تم إعادة بث المسلسل على الإنترنت ليلقى إعجاباً كبيراً من الأجيال الصغيرة.
من المدهش أن فكرة صنع «كولومبو» كانت محل شك من صناعه لأنه يقوم على حبكة غير تقليدية في الدراما البوليسية في ذلك الوقت، وهي حبكة مستلهمة من رواية أدبية غير بوليسية هي «الجريمة والعقاب» التي كتبها الروسي فيدور دستويفسكي في القرن التاسع عشر.
في الرواية يقوم شاب مثقف عاطل يدعى راسكولينكوف بارتكاب جريمة قتل مرابية عجوز، ولا يشك به أحد في البداية، لكن يبدأ في ملاحقته محقق شرطة ناعم وهادئ، لا يوجه إليه الاتهام مباشرة، ويكتفي بالظهور كل فترة ليلقي بعض الأسئلة، التي تبدو بعيدة عن موضوع الجريمة، ولكن مرتبطة بها بشكل ما، ضاغطاً على أعصاب راسكولينكوف الضعيفة فيرتكب بعض الأخطاء ثم ينهار ويعترف.
كاتبا المسلسل ريتشارد ليفنسون وويليام لينك استلهما شخصية المحقق كولومبو من شخصية المحقق بورفيري بيتروفيتش في «الجريمة والعقاب»، وبنيا حلقاته على الحبكة نفسها، رغم أنها تتعارض مع معظم قوالب الرواية البوليسية على طريقة آرثر كونان دويل أو أجاثا كريستي التي تعتمد على تأجيل معرفة المجرم إلى النهاية، وعلى فضول القارئ أو المشاهد لمعرفة من الجاني وكيف ارتكب جريمته، وهي المعلومات التي تبدأ بها حلقات مسلسل «كولومبو»!.
في بداية كل حلقة نشاهد الجريمة أولاً، والجريمة تبدو بلا أخطاء، والقاتل عادة شخص ذكي للغاية، وأحياناً صاحب نفوذ أو منصب أو شهرة كبيرة، ويصعب أن يكون مثاراً للشك، وعادة لا يظهر كولومبو إلا بعد ربع ساعة أو 20 دقيقة، وفي لحظة ما من التحقيق نلاحظ أنه بدأ يشك في القاتل، ولا يعلم المشاهد أسباب شكوكه إلا في النهاية غالباً، عندما تحدث المواجهة بين القاتل والمحقق، وعنصر التشويق في العمل يأتي من فضول المشاهد لمعرفة الكيفية التي عرف بها كولومبو أن هذا الشخص تحديداً هو القاتل، وكيف سيثبت عليه التهمة.
هذه الحبكة المحددة التي استمرت على مدار حلقاته الـ 69، تتراوح مدة عرضها بين أقل من ساعة وربع الساعة وأكثر من ساعة ونصف الساعة، وتروي كل حلقة منها قصة منفصلة العامل المشترك الوحيد بينها هو شخصية المفتش كولومبو الذي لعب دوره الممثل بيتر فولك، والذي ارتبط اسمه بالشخصية لدرجة يصعب التفريق بينهما.
صفات كولومبو
استطاع بيتر فولك، مع صناع المسلسل، أن يعطوا لشخصية المحقق صفات مميزة جعلته لا ينسى، فهو رجل متوسط العمر بسيط الحال، غالباً ما يرتدي معطفاً واقياً من المطر أصفر ومهلهلاً، يدخن السيجار ويسقط الرماد على صدره، شديد التهذيب، ولكنه لحوح إلى حد الإزعاج أحياناً، وفي كل لقاء يجمعه بالجاني غالباً ما يؤجل سؤاله الحاسم إلى النهاية، بعد أن يستأذن للرحيل، مما يربك الجاني عادة حيث لا يكون في حالة استعداد ذهني لصياغة إجابة مقنعة، وغالباً ما يرتجل كذبة تكون برهاناً آخر لكولومبو على صحة شكوكه.
على مدار مواسمه العشرة شارك في بطولة الحلقات عدد كبير من نجوم هوليوود والتلفزيون الأمريكي مثل جانيت لي وديك فان دايك وجوني كاش، كما شارك في إخراج الحلقات عدد من المواهب الذين أصبحوا بعد ذلك من كبار المخرجين، وعلى رأسهم ستيفن سبيلبرج الذي افتتح الموسم الأول بحلقة عنوانها «جريمة قتل كما قال الكتاب» A Murder by the Book، والتي اختيرت من قبل مجلة T. V. Guide الأمريكية في المركز السادس عشر بين أفضل الحلقات التلفزيونية على مر التاريخ، كما اختارت المجلة شخصية كولومبو في المركز السابع كأفضل شخصية تلفزيونية، وفي الاستطلاع الذي أجرته محطة ABC في 2012 اختير المسلسل كثالث أفضل دراما بوليسية في تاريخ التلفزيون الأمريكي، وقد حصل المسلسل بمواسمه العشرة على 13 جائزة إيمي، وجائزتي جولدن جلوب، من بين جوائز وتكريمات كثيرة أخرى.