الاحد - 19 مايو 2024
الاحد - 19 مايو 2024

المجايلة.. صراعٌ لا ينتهي

المجايلة.. صراعٌ لا ينتهي
د. أمل درويش كاتبة ــ مصر

أرّق هاجس المجايلة الألباب منذ القدم، وأصابها بالحيرة.. اختزله البعض في تلك الفجوة بين جيل الأجداد والآباء والأبناء، وحاولوا علاج هذه الهوة والحد من قوة هذا التصادم الناجم عنها.

ونظرًا لاختلاف الرؤى ووجهات النظر، قدم بعض الفلاسفة والشعراء النصحائح لحل هذه الأزمة؛ فقال سقراط: (لا تُكرهوا أولادكم على آثاركم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم..)، وقال جبران خليل جبران: (أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم ولكن ليس منكم، ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا ملكًا لكم..)، ربما كانت هذه هي الوصفة السحرية للتخلص من هذه الفجوة والوصول إلى نقطة التقاء.. ولكن هذه الفجوة لم تنشأ فقط بين الأجيال في محيط الأسرة، ولكنها امتدت إلى معظم الساحات.. وقد اختلف البعض على تعريف مصطلح المجايلة فارتبط عندهم بالزمن، وربطوا كل جيل بالمدة الزمنية التي شغلها، والبعض حصر كل جيل في 10 سنوات.. ولكن عند البعض مثل ألبرت أينشتاين الزمن افتراضي، يختلف باختلاف المكان.. لذلك ربط البعض المجايلة باختلاف الأيديولوجيات والمفاهيم والمناهج المعرفية عند كل جيل.


ولما كانت الحياة الثقافية وما تشمله من الآداب والفنون من أكثر المجالات التي تشهد حراكًا واختلافات في الرؤى، فمن الطبيعي أن نجد كل جيل أو مجموعة تشترك في الرؤى والأيديولوجيات ترفض كل ما يخرج عن أطر مدرستها الفكرية، وترفض النقاش فيه، بل وتهاجم كل من سلك طريق التجديد وحاول الخروج عن السرب.


وإذا عدنا للعصور القديمة سنجد أن الأمر له أصول قديمة وليس بجديد؛ فنجد على سبيل المثال الفيلسوف (امبدوكليس) أحد أهم الفلاسفة اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد الذي اشتهر بميله للروحانيات، والذي آمن بوجود قوتين كبيرتين محركتين في العالم هما الحب والكراهية، نجد طاقة الحب تجمع والكراهية تفرق، إضافة إلى العناصر المادية الأربعة: (الماء، الهواء، التراب، النار) في وقت كانت فيه الروحانيات غير معترف بوجودها، مما جعل الكثير من الأساطير تُنسج حوله حتى اتهمه البعض بادعائه الألوهية.

كذلك تعرض الفيلسوف اليوناني سقراط للمحاكمة ودفع ثمن آرائه ونظرياته ثمنًا؛ إذ حكم عليه بتجرع السم عام 399 قبل الميلاد بعد اتهامه بإفساد الشباب بآرائه المتحررة دينيًا وإنكار الآلهة القديمة.. وذلك لمعارضته للطبيعيين وإنكاره المدرسة التجريبية، واعتماده رؤية فلسفية جديدة تدعو إلى المثالية الموضوعية وتعنى بتعليم الإنسان كيف يعيش.. وانتقاصه من دور الحواس في عملية المعرفة.

ثم ننتقل لعصر أحدث، حيث العالم والفقيه ابن رشد الذي اعتمد فلسفة أرسطو، وكان مفسرًا وشارحًا لها بعدما اكتشف تغيير السابقين لفلسفة أرسطو أثناء ترجمتهم لها مما أساء فهمها.. ويعد ابن رشد من أشهر الفلاسفة العقلانيين.. كما درس المنهج المالكي، وأنشأ مدرسة خاصة به تدعو إلى مزاوجة العقل مع الدين، مما جعل البعض يكفرونه ويتهمونه بالإلحاد ممن يرفضون الاجتهاد وإعمال العقل في فهم الدين ويكتفون بحفظ النصوص الدينية كما هي دون البحث والفهم.. والقائمة تطول في مختلف العصور والأماكن.

وفي القرن الماضي، كانت النهضة الفكرية في مصر وبلاد الشام وبلاد الرافدين، وانتشرت الصالونات الأدبية مثل صالون العقاد ومي زيادة، وغيرهم.. ولكن هؤلاء العظماء لم يتقبلوا أفكار الأجيال التالية.. فلماذا لا نوقف سيل هذه المعاناة؟ ونقيم السدود التي تصل شواطئ الإبداع، وتحتضن الأجيالُ السابقة الأجيالَ الجديدة وتحتويها. فأنهار الإبداع لا تنضب، ولن يفسدها التقاء روافدها معًا.

شاركوا بمقالاتكم المتميزة عبر: [email protected]