الخميس - 09 مايو 2024
الخميس - 09 مايو 2024

سراييفو.. عندما يبدع الألم

سراييفو.. عندما يبدع الألم
زينة يكن باحثة وكاتبة سورية مقيمة في الإمارات

ما إن وصلت إلى مطار سراييفو حتى عبقت رائحة المطارات الشيوعية الصغيرة بداخلي، إذ لها طابع خاص، ولكن الوجوه المتحضرة من الرجال والنساء، الذين يعملون جنباً إلى جنب لتسهيل مرور السياح، أظهرت وجهاً جديداً للمدينة يتمايز عن أوجه معظم مطارات الدول التي كانت تخضع للأنظمة الاشتراكية سابقاً والتي تقاد في معظمها من الذكور فقط.

في طريقي إلى الفندق عرفت أن سراييفو ستلهمني، هذا الجمال اليوغسلافي المختلف تماماً، ممزوج بالطبيعة البلقانية الساحرة، والهوى العثماني التركي، كما لم تخلُ المدينة أيضاً من الطابع العربي الخليجي، حيث تتطاير الأغاني من وسط المدينة، ونفوح رائحة القهوة البوسنية من الزوايا الأربع التي تحيط «بالسبيل» البوسني الأشهر.


تعرّفت على المدنية بشكل أعمق بعد جولة لي فيها مع أصدقائي سيراً على الأقدام، كانت تقودنا مرشدتنا السياحية «هدايا» من أصل كرواتي، فسراييفو التي تعرف بهذا الاسم نسبة إلى كلمة سرايا أي قصر.


سراييفو تعرف أيضاً بهذا الاسم نسبة إلى «الكرفان سراي» أو قوافل التجارة، التي كانت إحدى محطات طريق الحرير، وقد عزز هذا المفهوم والي سراييفو «خسرو باشا» عندما أكد على ضرورة وجود 4 ركائز في المدن التجارية: السبيل، الخانات، الجوامع، والحمامات وليس حمّام بمعنى حمام، وإنما دورات مياه، لذا تعتبر أول دورات مياه موجودة في أوروبا هي التي أوجدت في سراييفو.

على صعيد آخر، لقد كان واضحاً الخط الرئيسي الذي تتميز به سراييفو كمنطقة وصل بين آسيا وأوروبا، حيث يوجد خط فاصل، إذا نظرت عبره إلى اليمين فستجد الطراز الإسلامي، وإذا نظرت به إلى اليسار فستجد الطراز النمساوي الهنغاري تزينه كاتدرائية من الطراز الباروكي.

مع تعدد رحلاتي أصبحت واثقة أن كل بلد لديها ما تحاول نسبه لنفسها دون غيرها، أي ما تتميز به وحدها فقط، وتعتقد أنها الوحيدة في ذلك؛ لقد أخبرتنا هدايا أنّ سراييفو هي مصدر تسامح الأديان وهي المكان الوحيد الذي تسمع فيه دق أجراس الكنائس تزامناً مع آذان الجوامع، فضلاً عن وجود كنيس للأقلية اليهودية الذي يبلغ عددهم 500 شخص فقط.

أعتقد أنّ هدايا لم يتسنَّ لها زيارة عدد من الدول المشرقية فمعظم الدول العربية تميزت بهذا قبل الحروب، وإذا فرضنا جدلاً أن بعض الدول العربية لا تحوي المكوّن اليهودي في الوقت الحالي، فهي حتماً لم تسمع عن أوزبكستان التي برأيي يحق لها التفاخر باسم التسامح الديني، بل أكثر من هذا، حيث يعيش الجميع بسلام (دون الحاجة للتعايش)، فيمكن أن تسمع الكنائس والجوامع والكنيس في نفس الوقت، حتى وإن لم يكن وجود الكاتدرائيات طاغياً بقوة.

بالطبع أتفهّم مهنة «الدليل السياحي» وضرورات العمل التي تقتضيها في تلميع الصورة الخارجية، ومع هذا وعلى الرغم من كل الأحكام المطلقة التي سمعتها عن سراييفو بأنها مدينة كئيبة، حزينة وأن تداعيات تفكك يوغسلافيا ومجازر سيبرينتسا ما زالت تحوم حول روحها الجميلة، إلا أنني لا أشارك هذه النظرة السلبية ولا تلك الأحكام مع هؤلاء، ولا حتى مع المتذمّرين من المدينة نفسها.

صحيح.. هناك ألم يمكن الإحساس به، وهناك أزمة هوية كحال معظم الدول التي تمتلك تعددية عرقية ودينية دون أن تديرها بشكل صحيح، ولكن في صميم هذا الألم هناك سحر يمكنك أن تشعر به في قلوب البوسنيين وإن كانت وجوههم الجميلة فاترة، فلا أحد مجبر على التحدّث معك وسؤالك عن أحوالك.. لا أحد يجبره إحضار غطاء أو وشاح لك لإحساسه فقط بأنك تشعر بالبرد، دون الحاجة لسؤالك.. هذا السلوك لا تحركه سوى الطيبة النابعة من القلب.

لقد أصبحت متأكدة من أن كلمة «مشرق» هي رمز للسحر والجمال في كل مكان أحط فيه بالرغم من كل عيوبه، وليست رمزاً للتخلف كما يحاول الكثيرون إقناعنا. يجب أن نعيد لهذه الكلمة وزنها بدلاً من الذهاب نحو التقسيم الجغرافي الذي يرسمه لنا غيرنا.

شاركوا بمقالاتكم المتميزة عبر: [email protected]