الاثنين - 06 مايو 2024
الاثنين - 06 مايو 2024

علماء يكشفون «تجارة الوهم» في مكملات فيتامين «د»: المستهلك يدفع المليارات بلا فائدة

في ظهيرة يوم قائظ من أيام مدينة «بالتيمور» الواقعة في بولاية ميرلايند الأمريكية، وقف «ألمر ماكولوم» داخل معمله بجامعة «جونز هوبكينز» الشهيرة يُجري مجموعة من الأبحاث على مركبات كيميائية شديدة التعقيد مستخرجة من مواد غذائية حيوانية، وأثناء تجربة اعتيادية قامت فيها زميلة المعمل «مارجريت ديفيس» بتسخين تلك المواد داخل أنبوبة مخبرية، لاحظ «ماكولوم» ترسيب مركب بلوري في قاع أنبوبة الاختبار، بفحصه ومقارنته بمركبات أخرى، لاحظ كلاً منهما أن التركيبة البلورية وشكل الجزيئات في الفراغ وخصائصه الفيزيائية لم تُوصف من قبل في أي مكان.

أطلق «ماكولوم» على ذلك المركب اسم «كوليكالسيفيرول»، وهو الاسم العلمي للفيتامين الأكثر شهرة المعروف على نطاق واسع باسم «فيتامين د»، كان ذلك في عام 1913، ومن يومها وإلى الآن، احتل ذلك المركب رأس قائمة المركبات الأكثر شهرة، والتي يعتقد العامة بفوائده السحرية، بدءًا من تقوية العظام، وانتهاء بالمساعدة على الشفاء من السرطان، وسط ماكينة دعاية تغطي العالم كله، وتسوق لـ «أوهام الفيتامين السحري الذي يشفي مرضى كل شيء» ويقي الأصحاء من «أي مرض».

تقصت «الرؤية» وراء حقيقة هذه المزاعم، وبحثت في الدراسات الحقيقية المنشورة في أكبر الدوريات العلمية في العالم، وناقشت العلماء والباحثين واضعي الدراسات التي قلبت الموازين، لتأتي الإجابات الصادمة: «فيتامين دي ليس سحرياً مثلما يكتبون على علب المكملات الدوائية الفاخرة».


وطيلة السنوات التي تلت اكتشاف «فيتامين د»، تسارعت شركات الأدوية لصناعة مركبات تحتوي على قدر هائل من ذلك الفيتامين، وزعم المصنعون، وبعض العلماء، وجود فوائد صحية هائلة لذلك الفيتامين، غير أن الأبحاث العلمية الأخيرة تُشير إلى عكس ذلك الزعم، إذ تقول بعضها إن تناول المكملات الغذائية التي تتركز بها كميات هائلة من ذلك الفيتامين لا تفيد الصحة العامة، بل يُمكن أن تضرها.تنتج أجسامنا فيتامين «د» بشكل طبيعي حين نتعرض لأشعة الشمس، بالإضافة إلى وجوده في مجموعة متنوعة وكبيرة من الأطعمة، كالأسماك والحليب ومنتجاته، وعصير البرتقال والحبوب الكاملة، يُساعد ذلك الفيتامين على امتصاص الكالسيوم، ويؤدي نقصه إلى الإصابة بمجموعة من أمراض العظام، لذا يلجأ البعض إلى الحصول على ذلك الفيتامين عبر تناول المكملات الغذائية بشراهة باعتبارها حلاً سحرياً ومتاحاً حتى دون وصفة طبية، وهو ما قد يُسبب أضراراً كبيرة، على حد قول «أليسون إيفانيل» أستاذ العلوم الصحية السريرية بجامعة «إبردين» الإنجليزية.


وهم تقوية العظام

طيلة الخمسة عشر عاماً الماضية، عملت «أليسون» على تقصي الآثار الصحية لتناول المكملات الغذائية التي تحوي نسبًا عالية من الفيتامينات والمعادن، درست السيدة آثر تناول ذلك الفيتامين على صحة 50 ألف شخص، ونشرت نتائجها في دورية «لانسيت» العلمية الشهيرة.

وتقول تلك الدراسة، التي أحدثت ضجة كبيرة في جميع الأوساط الصحية، إن تناول ذلك الفيتامين لا يُمكن أن يمنع الكسور عند البالغين، وإن أثره منعدم على تحسين صحة العظام وصلابتها، وإنه لا يوجد أي سبب منطقي لتناول تلك المكملات بشكل يومي.

أجريت التجربة على 50 ألف شخص، على مدى خمس سنوات كاملة، تناول خلالها نصف المتطوعين جرعات من فيتامين «د» تتراوح بين خمسة آلاف إلى عشرة آلاف وحدة، فيما تناول النصف الأخر علاجًا وهميًا عبارة عن أقراص مُكونة من مواده هلامية عديمة الفائدة، بعدها، قام الباحثون بإجراء فحوص للتأكد من أثر تناول المكملات على صحة العظام، ليجدوا أن المقارنة بين المجموعة الأولى التي تناولت جرعات عالية من فيتامين «د» مع المجموعة الثانية التي تناولت علاجًا وهمياً لم تُظهر أي اختلافات تذكر.

وتوصل الباحثون إلى أن تناول ذلك الفيتامين لا يمُكن أن يحسّن من كثافة العظام، ولا يمنع كسورها، ولا يؤثر بأي حال من الأحوال على هشاشة العظام عند البالغين.

«كان ذلك الاكتشاف صادمًا» تقول «أليسون» فالاعتقاد الشائع بالفوائد الصحية الهائلة لتناول ذلك الفيتامين «ذهبت أدراج الرياح» إذ إن الدراسة العلمية أثبتت «عدم قوة الأدلة الحالية على الفوائد الصحية المزعومة لتناول المكملات الغذائية عالية التركيز بفيتامين د».

التأثير على القلب.. النتيجة صفر

يعتقد البعض أن تناول فيتامين «د» قد يُساهم في الحد من خطورة الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية، غير أن دراسة نشرت نتائجها في دورية الجمعية الأمريكية لأمراض القلب تقول إن تناول المكملات الغذائية «لا توفر أي فوائد ملحوظة لصحة القلب».

ويقول الطبيب الشهير «ديفيد جينيكس»، وهو أستاذ علوم الأدوية بجامعة «جونز هوبكينز» الأمريكية، إن البيانات العملية تشير إلى أن استهلاك الفيتامينات المتعددة بشكل عام، وفيتامين «د» بشكل خاص، لا يوفر في الواقع أي فائدة ملحوظة لصحة الإنسان.

ركزت الدراسة التي قاد فريق عملها «جينكيس» على تأثير المكملات الغذائية الشائعة مثل فيتامينات «ب» و «ج» و«د» علاوة على الكالسيوم وحمض الفوليك في مكافحة أمراض القلب التاجية والحد من نوبات السكتات الدماغية، وقالت نتائج الدراسة إن المكمل الغذائي الوحيد الذي يُقلل من خطر الإصابة بالسكتة الدماغية وأمراض القلب هو حمض الفوليك.

ويقول «ديفيد» إن أكثر من نصف الأمريكيين فوق سن 65 عاماً يتناولون الفيتامينات المتعددة كجزء من روتينهم اليومي، ويدفعون مبالغ طائلة في تلك المستحضرات التي تزعم الشركات أن لها تأثيراً ملحوظاً على الوقاية من السرطان وأمراض القلب «وهو أمر ثبت عدم صحته على الإطلاق» على حد قول الباحث الأمريكي.

مخاوف من السرطان

وتشير دراسات أخرى إلى أن بعض العناصر الموجودة في الفيتامينات المتعددة يُمكن أن تُساهم في رفع احتمال الإصابة بسرطان الرئة، في حين أن فيتامين «هـ» قد يزيد من خطر الإصابة بمرض القلب وسرطان البروستاتا.

ووجدت دراسة منشورة في المجلة الدولية للعلوم الجزيئية أن تناول الفيتامينات، ومضادات الأكسدة، والبيتا كاروتين، له آثار شديدة الخطورة على الجسم، فمن بين 27 تجربة سريرية نشرت نتائجها تلك الدراسة، أظهر تناول المكملات زيادة خطر الإصابة بأمراض مزمنة ومميتة في عشر حالات، فيما لم تظهر أي نتائج متعلقة بالفوائد في عشر حالات أخرى، وأظهر سبع حالات تقدمًا في الصحة العامة، ويقول «ديفيد» إن عملية شراء الفيتامينات تُشبه «دفع ثمن علبة سجائر.. فهي ببساطة لا تسهم في جعلنا أكثر صحة، بل يُمكن أن تزيد الأمر سوءًا».

الفيتامينات قد تسبب السمنة

ربما يرتبط وباء السمنة حول العالم بالاستخدام المنتظم للفيتامينات والمكملات الغذائية الأخرى، فبدلاً من اتباع أنظمة صحية متوازنة وغنية بالعناصر الغذائية، يتم إغراء الأشخاص باستبدال الفيتامينات بالأطعمة الصحية، ووفقًا لتقرير صادر من جامعة هارفارد، فإن التسويق المستمر للفيتامينات باعتبارها مكملاً غذائياً حيوياً وضرورياً يُغني عن الأغذية الصحية التقليدية «خلق بيئة سامة تدعم السمنة والأمراض المرتبطة بها، وخاصة أمراض القلب التاجية».

ويقول «ديفيد جينكيس» إن صناعة المكملات الغذائية «استثمار قائم على جني الأرباح» ولا يُركز بأي شكل من الأشكال على المنتجات التي تعود بالنفع على الإنسان، في عام 2012 قام الأمريكيون بشراء مكملات غذائية بمبلغ 32 مليار دولار، ويقول «ديفيد» إن ما يزيد الطين بلة هو السلطات المحدودة للغاية لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية بخصوص موضوع المكملات الغذائية فـ «أي منتج عشبي يُصنف كمكمل غذائي لا تستطيع إدارة الغذاء والدواء فحصه أو المطالبة بنتائج تجاربه السريرية».

فيتامين «د» لا يمنع الإصابة بالسكري

لا يؤدي تناول مكملات فيتامين «د» بشكل يومي إلى منع الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني لدى البالغين المعرضين لخطر الإصابة، وفقًا لدراسة نفذها المعهد الأمريكي للسكري وأمراض الجهاز الهضمي، وهو جزء من المعاهد الأمريكية للصحة، والتي تُعد واحدة من أهم المؤسسات الصحية في العالم.

شملت تلك الدراسة عينة بلغت 2823 شخصاً في 22 دولة حول العالم، ونشرت النتائج في دورية «نيو إنجلند الطبية»، وتم مناقشتها في الجلسات العامة بمؤتمر الجمعية الأمريكية للسكري والذي انعقد الشهر الماضي في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية.

وتعد تلك الدراسة هي الأضخم من نوعها لتقصي ما إذا كانت مكملات فيتامين «د» يُمكن أن تساعد الأشخاص المعرضين لخطر أكبر للإصابة بمرض السكري من النوع الثاني على البقاء أصحاء فترة أطول، شملت الدراسة فحص عينات لبالغين تتراوح أعمارهم بين الـ 30 و 65 عاماً، تم تقسيمهم إلى ثلاث مجموعات، أعطيت المجموعة الأولى جرعات يومية من فيتامين «د» بقيمة 4000 وحدة، فيما أعطيت المجموعة الثانية دواء وهميًا، وتركت المجموعة الثالثة دون إعطاء أي دواء.

وتقول «مارلين ستاتن» الباحثة في الدراسة إن النتائج لم تُظهر وجود أي علاقة بين انخفاض مستويات فيتامين «د» وزيادة خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني. كانت دراسات سابقة قد وجدت أن فيتامين «د» يُمكن أن يُحسن من وظيفة نوع من أنواع الخلايا البنكرياسية التي تنتج الأنسولين، وبالتالي تقول الدراسات السابقة إن ذلك الأمر قد ينعكس على منع أو تأخير مرض السكري من النوع الثاني.

تنفى «مارلين» تلك الصلة على الإطلاق، ففي دراستها، والتي فحصت المتطوعين خلال فترة متوسطها عامان ونصف العام، أصيب 293 شخصاً من أصل 1211 مشاركًا في المجموعة الأولى التي أعطيت فيتامين «د» بمرض السكري من النوع الثاني بنسبة 24.2 %، فيما أصيب 323 شخصاً من أصل 1212 شخصاً في المجموعة الثانية التي أعطيت دواء وهميًا، بنسبة 26.7 %، وهو اختلاف لم يُقدم أي دلالة إحصائية يُمكن أن تُشكل دليلاً على وجود فوائد صحية مرجوة لتناول ذلك الفيتامين أو على إمكانياته في منع الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني.

ويرى المؤلف الرئيسي لتلك الدراسة «أنستاسيوس بيتاس» الباحث في معهد تافتس الطبي أن أحد نقاط القوة الرئيسية في تلك الدراسة «تنوع المشاركين فيها وحجمها الكبير وهو الأمر الذي مكننا من فحص تأثير فيتامين د بشكل دقيق» مشيرًا إلى أن النتائج «لم تُظهر أي فارق يذكر بين المجموعات الثلاثة بغض النظر عن العمر أو الجنس أو العرق».

الغذاء قبل الدواء

تقول منظمة الصحة العالمية إن فيتامين «د» يلعب دورًا مهماً في أيض العظام عبر تنظيم التوازن بين الكالسيوم والفوسفات، كما يلعب دورًا مهمًا في تنظيم الجهاز المناعي، وتشير المنظمة على موقعها الإلكتروني أن فيتامين «د» يُنتج داخل الجسم عند التعرض لأشعة الشمس، كما يوجد في الأسماك الزيتية ومنتجات الألبان.

وتشير المنظمة إلى أن الرضع يولدون بمخزون صغير من ذلك الفيتامين، كما أن نسبه في لبن الأم يتوقف على حالة الأم الصحية، ولأن نسب التعرض لأشعة الشمس تختلف طبقًا لمكان الولادة، يُمكن أن يؤدي النقص في فيتامين د إلى تشوه العظام عند الرضع، وصعوبة التنفس، وتقول منظمة الصحة إن البيانات الحالية تُشير إلى أن المكملات قد تكون فعالة في الوقاية من تشوه العظام، إلا أنها تعود وتؤكد أن «مزيدًا من البحوث يجب أن تجرى قبل إصدار توصيات مُحددة بخصوص تناول الرضع للفيتامينات».

مخاوف على الأمهات

أما بالنسبة للحوامل، فتقول المنظمة في بيان صحافي: يُعتقد أن عوز هذا الفيتامين منتشر بين النساء الحوامل في بعض الفئات السكانية، وثبت ارتباطه بزيادة مخاطر الإصابة بمقدمات الارتجاع وداء السكري الحملي والابتسار وحالات أخرى تتعلق بالأنسجة تحديداً ويحسّن تعاطي مكمِّلات فيتامين د أثناء الحمل من الحالة المتعلقة بفيتامين د، وقد يؤثر إيجاباً على توافر هذا الفيتامين للجنين، ولكن البيِّنات المتاحة حالياً لتقدير الفوائد والمضار الناجمة عن استخدام مكمِّلات فيتامين د بمفرده أثناء الحمل لتحسين الحصائل الصحية للأم والرضيع ما تزال محدودة إلا أنها تعود وتؤكد على ضرورة «تشجيع النساء الحوامل على تلقي التغذية المتوازنة من خلال استهلاك أنظمة غذائية متوازنة وصحية» مؤكدة أيضًا على ضرورة إجراء المزيد من الأبحاث على جدوى تناول المكملات الغذائية قبل إصدار أي توصيات.