السبت - 11 مايو 2024
السبت - 11 مايو 2024

فلسفة في مرسم فنان

كان يعبث بريشته على ورقة أمامه مبدياً شغفاً استثنائياً قلما شاهدته في شخص يؤدي عملاً ما. لم أشأ التحدث إليه كيلا أقطع سلسلة أفكاره، ثم ما لبث أن رفع رأسه بعد أن انتبه إلى وجودي في مرسمه. - أهلاً بك .. تفضل بالجلوس. - شكراً يا صديقي، أرى أنك تركت لوحتك المثبتة على المرسم لتلهو بوضع بعض الخطوط على هذه الورقة التي أمامك. - آه صحيح .. فأنا أحب أن آخذ فاصلاً أحياناً. - حتى عندما تأخذ فاصلاً تمضيه في الرسم؟ ما أغربك! بدأت معرفتي به منذ وقت ليس ببعيد، وكان اهتمامي بالفن التشكيلي حينها محصوراً ببعض الأسماء كدافينشي وسيزان ومونيه وفان غوخ ورينوار وبيكاسو .. وبأفكار سطحية مبسطة عن السوريالية والرمزية والتجريدية والانطباعية والتكعيبية. لقائي به والجلسات التي كانت تجمعني معه هو ومجموعة من الفنانين في أحد المقاهي وما كان يدور بينهم من نقاشات وسعت معرفتي الفنية بعض الشيء، وأصبحت أجد متعة في ذلك وأحرص على حضور الجلسات التي كانت تتكرر بشكل يومي تقريباً. ترك ورقته وقام عن الطاولة التي كان قد جلس إليها ليأخذ فاصله الذي أمضاه في الخربشة وتوجه إلى لوحته المثبتة على المرسم. كانت اللوحة تحوي خطوطاً ولطخات من الألوان هنا وهناك وكانت تظهر فيها وجوه تعبر عن الغرابة والضياع، وكانت ألوانها الداكنة تبعث على الكآبة. - متى بدأت هذه اللوحة؟ توجهت بسؤالي إليه. - بدأتها البارحة، وأريد أن أنجزها اليوم قبل أن يتسرب الملل إلى نفسي فأنا لا أحتمل العمل في لوحة وقتاً طويلاً. عاد إلى متابعة الرسم وانشغلتُ بقراءة كتاب عن تاريخ الفن مسترقاً نظرة إليه بين الفينة والأخرى. كانت أصابعه تمسك بالريشة بأناقة بالغة وكأن بينهما علاقة مميزة ويغمسها في علبة من علب الألوان المنتشرة على الطاولة أمامه كلما جفت ليبعث فيها الحياة من جديد، فالريشة كانت وسيلته في بعث الحياة في قطعة من قماش. ثم يلجأ إلى استخدام ريشة أكبر إن كانت هنا تفاصيل يجب أن يتم تضخيمها. لم أحس بمضي الوقت لأن المتعة لم تفارقني لحظة وأنا أتابعه. ملامحه ونظراته نحو لوحته كانت توحي بعلاقة لا يمكن التعبير عنها بسهولة فهي تشبه نظرة عاشق إلى حبيبته بكل ما تنطوي عليه من هيام. استمر انسياب ريشته على لوحته ليتوقف بعد وقت لا بأس به. حولت بصري قليلاً عن اللوحة لأعاين حالة المرسم. أكواب شاي فارغة وفناجين فيها بقايا قهوة قد تجمدت وعبوات مياه معدنية فارغة في زوايا المرسم وأوراق وكتب تتناثر على أرائك يعلوها الغبار كانت تشي بحالة ما وترسم صورة له هو نفسه. - لا بد أنك تنتقد في داخلك حالة الفوضى التي تسود المكان. بعض الفوضى ضرورية لكي نصل إلى الإبداع. ما رأيك؟ قالها وابتسامة تعلو وجهه. - ربما تكون محقاً لا أعرف. توقف صديقي أخيراً عن الرسم وبدأ يلقي نظرة فاحصة على لوحته وأمسك بريشة ناعمة ليضع توقيعه أسفل اللوحة. - هل أنهيت لوحتك فأنا أرى أنك تهم بتوقيعها؟ - لا بد من توقيعها في نقطة ما ولحظة ما .. لكن اللوحة لا تنتهي أبداً. هل تعتقد أن الأفكار تنتهي؟ - معك حق .. اسمع، أنا أحسدك فعلاً. - ربما فيما مضى كنت محقاً في حسدك لكن ظروف الحياة أصبحت صعبة ومواد الرسم تضاعفت أسعارها عدة مرات. - لكنكم تبيعون اللوحات بأسعار عالية. - أسعار عالية؟ انظر إلى فان غوخ مثلاً، فقد عاش حياة بائسة ومات في فقر مدقع، ولم يبع في حياته إلا بأسعار بخسة. - لكن لوحاته بيعت بملايين الدولارات فيما بعد. - وما الفائدة مما حصل فيما بعد؟ هل يستمتع أحد بحياته بعد مماته؟ - هل تعرف يا صاحبي أن عملكم هو كمن يزرع أشجار الزيتون، لا يجني ثمارها بنفسه وإنما تستفيد منها الأجيال التالية. ارتسمت على وجهه ملامح الحزن، ونظر إليّ وهز رأسه كمن يسخر من هذه الفلسفة.