الخميس - 16 مايو 2024
الخميس - 16 مايو 2024

الإسراف .. الملفوظ عقدياً وعقلانياً

تجلّت إشراقة العقلية الإنسانية في الارتقاء بمنظومة القيم الأخلاقية عبر تجارب مستبطنة من بيئات مختلفة، خلال تاريخ طويل قلمه الواقع المعاش وحبره صراعات آيدولوجية متجددة، مكنونها الخير والشر، وهدفها البحث على ضالة الإنسان الأبدية، وهي البحث عن حقيقة وجوده، والتنقيب عمّا ينبغي أن يكون عليه واقعه. وهنا، توصل إلى وضع قيم أخلاقية فاضلة، قوامها العقل، ومتجاوزاً محدودية الإدراك العقلي للوصول إلى الحقائق. وأنزل اللـه، سبحانه وتعالى، صحفه وكتبه السماوية عبر ملائكته إلى رسله عليهم السلام. لذا، لم تفتقر الإنسانية منذ بداياتها إلى مكارم أخلاقية، إذ أتت الرسالة المحمدية بدعوة متممة وتكميلية، محورها الإيمان باللـه وتأكيد الوحدانية والربوبية وصفاتهما، وقال صلى اللـه عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، «مسند الإمام أحمد بن حنبل». إن الذاكرة الإنسانية وبتراكميتها اجتهدت للوصول إلى أسانيد مرجعية تدوزن إيقاع وجوده بوسطية اعتدالية، رافضة مبدأي الإفراط والتفريط، إذ نهى القرآن الكريم عن الإسراف على مستوى الفرد والمجتمع في متناهية شاملة، تضم كل مباهج الحياة من الأطعمة الشهية، المشروبات، والملبوسات على نحو إرشادي توجيهي تكتمل عبره شخصية المسلم، وفق ما جاء في قوله تعالى «وكلوا واشربوا ولاتسرفوا إنه لايحب المسرفين». (الأعراف - «آية 31»). ويقول الشيخ محمد متولي الشعراوي 1911 - 1998م، عالم دين مصري، ومفسر للقرآن الكريم وله العديد من المؤلفات منها، «الإسلام والفكر المعاصر، الإسلام والمرأة عقيدة ومنهج، وغيرها»، «المأكل والمشرب من الأمور المباحة لأن فيها مقومات الحياة، كل وأشرب ولا تسرف، فقد أحل اللـه لك الأكثر، وحرّم عليك القليل، فلا تتجاوز الأكثر الذي أحل لك إلى ما حرّم، لأن هذا إسراف، بدليل إن لم تجد إلا الميتة، فهي حلال لك بشرط أن لا تسرف». وقد قال صلى اللـه عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»، رواه الإمام أحمد وغيره. ويكمن النهي عن الإسراف في مكنون النهي عن البخل، فالأول مجاوزة الحد في الإعطاء، والثاني مجاوزة الحد في المنع، وكلاهما تجاوز على منهج اللـه سبحانه وتعالى في الفطرة السوية، وقد وصف اللـه تعالى بني إسرائيل بأقبح الصفات وأخسها، وفي مقدمة هذه الصفات، قتل الأنبياء، قتلهم لغيرهم، فسادهم في الأرض، إسرافهم، وتكذيبهم للرسل والأنبياء عليهم السلام، كما جاء في قوله تعالى: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون». (المائدة - «آية 32»)، أي أن الرسل جاؤوهم بالشرائع والدلائل الواضحة، بيد أن أكثرهم متجاوزون الحد، وتاركون أمر اللـه تعالى. ونرى في تعاليم المسيحية الكثير من الأمور المتعلقة بالتحذير من الغنى الذي يجعل صاحبه عبداً للمال كما جاء في إنجيل متى (6: 18 -21) «لا يستطيع أحد أن يكون عبداً لسيدين، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر، إنكم لا تستطيعون أن تكونوا عبيداً للـه والمال»، ويظهر ذلك من خلال استخدام كلمة «طوبى لكم» و«الويل لكم»، في إنجيليْ متى ولوقا، فهذه الويلات موجهة إلى أن يضع الإنسان ثقته بنفسه وأمواله، وإلى من يعتقد بأن سعادته تكمن في رغد الحياة وملذاتها. وفلسفياً، تناول الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس 384- 322 ق.م، أحد تلاميذ أفلاطون، ومعلم الإسكندر الأكبر، وكتب في الفلسفة، الفيزياء، المنطق، الشعر، الأحياء، علم الحيوان، وأشكال الحكم، والفيلسوف المسلم أبونصر محمد الفارابي 260-339 هجرية، من خراسان، الذي كتب في الفلسفة، المنطق، والموسيقى، فكلاهما تحدث عن الفضيلة من غير إسراف في قمع متطلبات الجسد، أو ميلاً بطريقة كلية إلى الملذات الحسية والنفعية الخاصة، على اعتبار أن كليهما إفراط أو تفريط، فالفضيلة وسط بين رذيلتين، بيد أن الفارق بينهما يكمن في أن الأول وسطيته عقلانية، والثاني وسطيته عقلانية عقدية، كما يظهر ذلك من خلال تناوله لقضية التوفيق بين الدين والفلسفة، معتبراً الحقيقة واحدة، غير أن الفيلسوف يدركها عن طريق العقل، والرسل عليهم السلام تأتيهم مُنزلة من عند اللـه تعالى. [email protected]