الخميس - 16 مايو 2024
الخميس - 16 مايو 2024

إذا قال صدق

كنت قبل أكثر من عامين في مجلس عزاء ولاقيت رجلاً كنت أتوق إلى الجلوس معه فعمره كان قريباً من المئة عام في ذلك الوقت رحمه الله، ومع ذلك كان يحتفظ بجزء كبير جداً من ذاكرته التاريخية والملاحية حيث كان في الماضي البعيد أحد النواخذة الذين عبروا البحار والمحيطات في الزمن الصعب الذي عاشه الأجداد قبل عشرات السنين فجلست أمامه جلسة التلميذ مع الأستاذ وسألته أكثر من سؤال حول مواضيع مختلفة تهمني، فوجدته حاضر الفكر متقد الذهن يملك المعلومة بالدليل القاطع الجلي. وفي الأمس القريب كنت حاضراً في مجلس عزاء أيضاً ولفت نظري أحد الأخوة إلى رجل مسن جداً يقارب عمره المئة عام أيضاً، فسألت عنه فقال لي اسمه فلان وهو رجل صالح ما زال رغم كبر السن والمشقة يذهب للمسجد بنفسه ويصلي ويقرأ القرآن ويتعبد أفضل من كثير من الشباب، بالإضافة إلى ذلك فهو يمتلك مخزوناً كبيراً من المعلومات المهمة من ذلك الزمان الغابر .. فقد كان تاجراً منذ الصغر عمل في مدينتي طوال عمره تقريباً. الحاج عبدالله علي أحمد رحمه الله والحاج عبدالجليل الله يحفظه، كلاهما بلغ من العمر عتياً، ويعتبران من أهم المصادر الشفاهية لتاريخ المدينة وهما يعتبران كنزاً لأي باحث وفي جعبتهما الكثير .. لكن العبرة ليست فقط في الشواهد والقصص والأعمار فالكثير من أقرانهم أو من هم أصغر منهم بكثير يملكون معلومات وقصص مثلهما .. لكن العبرة في الشخصية نفسها ومدى صدقها وأمانتها وقربها من الله ونوعية حديثها وتقواها. المجال الشفاهي التاريخي مليء بالكثير من القصص التي تستحق أن تروى، وقبل أن تروى لا بد أن نختار مصدرها الصحيح التقي النقي، فالتقوى والأمانة والصدق والقرب من الله صفات مهمة جداً .. وكان المحدثون ممن يرتحلون لطلب الأحاديث النبوية وجمعها يحرصون أشد الحرص على معرفة أخلاق وتقوى وقرب الراوي من الله، وصنفوا في هذا الكثير .. وحري بنا في مجال التاريخ أن نحرص مثل حرصهم وأكثر، فنحن نحتاج للراوي الصادق الذي يخاف الله، فمجالنا به انزلاقات كثر واتهامات وأقاويل وقذف للعوائل والأسر إن لم نحرص على أن نختار المصدر الأمين الصادق الذي إذا قال صدق.