الجمعة - 17 مايو 2024
الجمعة - 17 مايو 2024

عامان من الوحدة

عندما كنت أصغر سناً أعيش في أحضان عائلتي ويحيط بي أفرادها، كنت كثيراً ما أنعزل عنهم وأنفرد في غرفتي، فلم أكن أتحمل الإزعاج الدائم ولا الاحتكاك بالآخرين مطولاً. كانت لي طقوسي وأجوائي في البيت، صحيح أن الدراسة كانت تأخذ جل وقتي، ولكن كانت لي أمور أخرى أحب ممارستها وحيدة في الغرفة، كالكتابة والقراءة، وعندما يزورنا الضيوف والأهل فهذا يعني اضطراب جدول وحدتي وخلوتي في الغرفة فأتذمر. لم أكن أتوقع في يوم من الأيام أن اللـه سيكتب لي أن أعيش وحيدة بعيداً عن أهلي بسبب ظروف الدراسة. وها أنا ذا وبعد عامين أمضيتهما في الوحدة، أنام وأصحو، آكل وأقرأ وأكتب وأمارس كل أمور حياتي وحيدة، أعترف بأن الوحدة ليست بذلك السوء. صحيح أني أستيقظ أحياناً وأشعر بالضيق يجثم على صدري، لأن لا أحد معي يزين لي صباحي، ولا أتناوش مع أحد لأسباب تافهة كما كنت أفعل مع أخي وأختي، ولا أسمع دعوات أمي تلاحقني عند خروجي كما اعتدت سابقاً. وبت أفتقد عند عودتي الجلوس مع عائلتي لتناول الطعام، فأخبرهم حينها بكل ما مررت به من مواقف خلال اليوم، وأنه عندما تضيق بي الدنيا لا أجد حولي سوى الجدران. على الرغم من كل هذا وتجرعي الأمرين أحياناً من تبعات الوحدة، فأنا وللـه الحمد تعلمت كثيراً وما زلت أتعلم من هذه التجربة. أصبحت أكثر تقديراً واستمتاعاً بالجلسات العائلية والاحتكاك بالناس. وصار المكوث عند أهلي في عطلة نهاية الأسبوع مصدر طاقة وشحن على مواجهة الوجه الموحش للوحدة لبقية أيام الأسبوع. صرت أكثر اعتماداً على نفسي، وأكثر قدرة على مواجهة المواقف التي أظن أني لو كنت في كنف أهلي لما حاولت مواجهتها. الوحدة علمتني كيف أستطيع أن أسعد نفسي بنفسي، ومدى جمال التأمل لفترات طويلة دون أي تشتيت، وأصبحت أكثر تقديراً للصمت والهدوء، خصوصاً بعد إزعاج ليالي المناوبات الصعبة. الوحدة التي كنت أنشدها وأتمناها وأنا بين أهلي علمتني مدى جمال أن تكون قريباً من أهلك وأصدقائك، ولكن لفترات محددة. يستحق التأمل: (ربي لا تذرني فرداً). [email protected]