الاحد - 12 مايو 2024
الاحد - 12 مايو 2024

ألعاب وسيناريوهات واشنطن

لا تزال التصريحات الأمريكية تثير الكثير من الشكوك في نياتها الحقيقية. ففي الوقت الذي كان يجري فيه الحديث عن هزيمة داعش في تدمر، بغطاء جوي روسي، خرجت واشنطن لتعرب عن عدم ترحيبها بما يجري. والمعروف أن واشنطن أيضاً كانت تستنكر بشكل مأساوي ما كان يجري طوال الأشهر العشرة الماضية، عندما كانت عصابات داعش تقوم بهدم الآثار التاريخية وتدمير الحضارة الإنسانية في هذه المنطقة. ولكنها الآن تطرح مقاربات نظرية غريبة باعتبار أن «عمليات دمشق ضد المعارضة هي التي أسفرت عن تقوية شوكة التنظيم في الأراضي السورية.. وأن ما يجري حالياً لا يعفي دمشق من المسؤولية عن العنف ضد شعبها، وأن واشنطن تنطلق من أن استبدال الهمجية التي يمثلها داعش باستبداد الأسد ليس حلاً جيداً»، وذلك وفقاً لتعبيرات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر. المثير أن تونر أدلى بهذه التصريحات في الوقت الذي كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري يجري فيه مباحثات مهمة مع نظيره الروسي سيرجي لافروف والرئيس فلاديمير بوتين. هذه المباحثات استغرقت ثماني ساعات، ما يعني أن الطرفين الروسي والأمريكي كان لديهما الكثير من المقترحات والخلافات والتوافقات، وربما يكون مصير الأسد قد تقرر على المدى المتوسط وليس على المدى القصير. ولكن الأهم أنهما اتفقا على ضرورة التعجيل بعملية الانتقال السياسي ووضع دستور لسوريا، وهو ما يعطي الأمل في التخلص من نظام الأسد، ولكن وفقاً لرؤية روسية – أمريكية قد تتعارض مع مصالح دول إقليمية كثيرة. وبالتالي، فالتصريح الغريب الذي أدلى به تونر يعطي انطباعاً بأن واشنطن تماطل أو تساوم لأسباب غير مفهومة. وربما تكون مفهومة فقط للأمريكيين. فلا أحد ينفي ما قاله تونر، وخاصة في ما يتعلق بطبيعة نظام الأسد، ومسؤوليته عن ذلك الحجم الهائل من الجرائم. إذا تحرينا الدقة، سنجد هناك تناقضات حادة بين خطاب الإدارة الأمريكية في ما يتعلق بالأنظمة الاستبدادية وبين التعامل مع هذه الأنظمة. وكذلك التناقض الصارخ بين خطابها في مناهضة الإرهاب، وبين محاربته ميدانياً، في ظل الكثير من الحقائق التي تبرز امتلاك واشنطن وأجهزتها الأمنية والاستخباراتية معلومات هائلة ووسائل لوجستية كفيلة بوقف تمدد التنظيمات الإرهابية والظلامية في سوريا، ولكنها لم تتحرك أو تبد أي رغبة حقيقية في ذلك. هذا الأمر أثار، ولا يزال يثير، شكوك الكثير من الدول الحليفة للولايات المتحدة، ويثير غضب المعارضة التي كانت تعول على شفافية واشنطن ومصداقيتها في مواجهة نظام الأسد، ومواجهة الإرهاب في آن واحد. ولكن يبدو أن الولايات المتحدة لديها أجندات وسيناريوهات خاصة بعيدة عن مصالح حلفائها، بل وربما تتعارض مع مصالح هؤلاء الحلفاء. في صيف 2015، ظهرت التساؤلات حول نيات الولايات المتحدة عندما تم وضع برنامج تدريبي متكامل لعناصر عسكرية مؤهلة من أجل الدخول إلى سوريا وإيقاف تقدم جبهة النصرة وداعش. ولكن واشنطن لم توفر غطاء جوياً، فنجحت جبهة النصرة من نزع أسلحة تلك العناصر العسكرية. المهم هنا أن واشنطن كانت تتسلم تقارير مفصلة من عملائها وعناصر استخباراتها عن تحركات تنظيم داعش ومخططاته في الرقة، ومعلومات تفصيلية حول الجماعات الجهادية، ومع ذلك بقيت «الرقة» طوال هذا الوقت معقلاً للتنظيم أو عاصمة لدولته المزعومة. أما في ما يتعلق بالطريقة المُذهلة التي سقطت بها مدينة تدمر في أيدي تنظيم داعش في يوليو 2015، فالأمر يثير الشك والغضب. لقد كانت واشنطن، وفقاً لأحد التحقيقات المهمة التي نشرتها صحيفة لوموند الفرنسية، تمتلك المعلومات الكاملة عن أحد أرتال مركبات «جيب» لتنظيم داعش والذي كان يتجه نحو تدمر. والغريب أن وكالة الاستخبارات الأمريكية والبنتاغون كانا يتابعان تحركات هذه المركبات. ومع ذلك لم تقم قوات التحالف، أو القوات الأمريكية، بقصف الإرهابيين. وبررت واشنطن ذلك بأن «الطيار القريب من المركبات لمح في إحدى الشاحنات وجود بعض الأطفال والصغار». وطبعاً هذه النظرة «الإنسانية جداً» لها مفعول السحر على وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، ولكنها لم تمنع الصحفيين والخبراء من توجيه سؤال آخر تماماً: «لماذا لم يقصفوا بقية السيارات؟!». في الحقيقة، كانت الولايات المتحدة تعرف جيداً أن رتل المركبات الداعشي يتوجه لاحتلال تدمر. ولكنها لم تقم حتى بإعاقته! كل هذه الخطط والتحركات والمواقف الغريبة تثير شكوك ليس فقط المعارضة السورية، بل وأيضاً الدول الحليفة لواشنطن، وتقلص مساحة شفافية ومصداقية الولايات المتحدة مع شركائها الكبار. [email protected]