الاثنين - 29 أبريل 2024
الاثنين - 29 أبريل 2024

من «الأمركة» إلى «هرمجدون».. عقارب الساعة في أوروبا تعود للخلف

من «الأمركة» إلى «هرمجدون».. عقارب الساعة في أوروبا تعود للخلف

أوروبا الخاسر الأكبر.

لا يبدو أن ميزان القوى يميل لصالح أيّ من الأطراف الأوروبية في الصراع الدائر بشأن أوكرانيا. قد تتباين آراء المحللين حول حسابات المكسب والخسارة، أمريكياً وآسيوياً وأفريقياً، أما القارة العجوز، لو احتسبنا روسيا (الأوراسية) ضمن نطاقها الجغرافي، فتبدو بكافة المقاييس الخاسر الأكبر الذي ربما يلفظ أنفاسه الأخيرة، من شرقه لغربه.

طعم العولمة

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن العشرين، وإعلان وفاة الشيوعية، كمذهب سياسي واقتصادي تبناه الاتحاد السوفييتي مقابل الرأسمالية الأمريكية، خَبِرَ الروس للمرة الأولى طعم مشروبي البيبسي والكوكا كولا، وشطائر الماكدونالدز.



كانت تلك الوجبات السريعة رمزاً لـ«الأمركة» و«العولمة» و«تدويل» نمط الحياة الأمريكية (أي جعلها عالمية ودولية)، وهو النمط الذي غزا العالم بأكمله، بعد تحوله إلى أحادي القطب. لكن دخوله روسيا، عقب تبنيها سياسة الانفتاح الاقتصادي على السوق العالمي، كان بمثابة ضربة عنيفة للجناح اليساري.

اليوم تبدو عقارب الساعة تعود للوراء في روسيا، مع إعلان كبريات الشركات الأجنبية العالمية تعليق نشاطها التجاري في روسيا، الواحدة تلو الأخرى. «ماكدونالدز»، «ستاربكس»، «بيبسي»، «كوكاكولا»، «فورد»، «نايكي»، وغيرها، جميعها، إغلاق متاجرها ومصانعها في روسيا مؤقتاً. ما يعزز أجواء العودة للخلف اقتراح عضو بارز في حزب «روسيا الموحدة» الحاكم «تأميم» المصانع المملوكة لأجانب، والتي أوقفت عملياتها في البلاد نهائياً، مثل شركات الأغذية الفنلندية المملوكة للقطاع الخاص: «فاتسر» و«فاليو» و«بوليج».

نهاية بوتين

كلما ضاق الخناق على الدب الروسي، تحدثت وسائل إعلام أمريكية وغربية عن اقتراب نهاية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع عودة ركود التسعينيات الذي عانته موسكو. وقال موقع هيئة الإذاعة الأمريكية «فويس أوف أمريكا» إنه بعد 13 يوماً من الصراع في أوكرانيا، فشل بوتين في إخضاع كييف، ولا يبدو أنه قادر على استبدال حكومتها بـ«نظام دمية».

وأضاف: «يشعر الروس العاديون بتأثير الضغوطات الاقتصادية الدولية على بلادهم، وهم يرون قيمة مدخراتهم ورواتبهم تنخفض» منذ بدء الصراع. وبحسب خبراء، فإن الاقتصاد الروسي قد ينكمش بنسبة تصل إلى 10% هذا العام، ما سيدفع بالبلاد إلى أعمق ركود منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما غرق الروس في حالة فقر أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي.

يتوقع هؤلاء أن يكون هذا الركود هو بداية النهاية التي ستؤدي إلى سقوط بوتين، وهو الذي جذب إليه الجماهير في بداية رئاسته بوعوده لهم بأنهم «لن يواجهوا مرة أخرى الفقر والفوضى التي عانوا منها في التسعينيات»، وفقاً لـ«فويس أوف أمريكا».

هذا عن روسيا، ماذا عن سائر أوروبا؟

مواقف واهنة

منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، صعدت القوتان الأمريكية والسوفيتية لتحتلا قطبي ميزان القوى في العالم، في النصف الثاني من القرن العشرين، فيما توارت الإمبراطوريتان العظمتان التاريخيتان بريطانيا وفرنسا.

وبهدف التصدي للقوة السوفيتية، سعت الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الحرب الباردة إلى توحيد قوى أوروبية غربية موالية للرأسمالية الأمريكية، من خلال برامج إعادة إعمار ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتشجيع دمج الاقتصاد الأوروبي وتعزيز وحدتهم العسكرية، ما تطور في النهاية ليصل إلى بلورة كيان «الاتحاد الأوروبي»، كما نعرفه اليوم، والذي تأسس بموجب معاهدة ماستريخت الموقعة عام 1991، وإن كانت جذور أفكاره تضرب إلى خمسينات القرن العشرين.

كان أحد الأهداف الأساسية لتطور الاتحاد الأوروبي قائماً على أساس جعل فكرة الحرب «غير متصورة ومستحيلة». أما وقد اندلع الصراع، منذراً بحربٍ شاملةٍ ستكون الأولى من نوعها على التراب الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بدت المواقف الأوروبية واهنة.

فرغم كل التصريحات الأوروبية الداعمة، ما زال الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي يناشد الولايات المتحدة ومن خلفها دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والقوى الأوروبية، فرض منطقة حظر طيران في أوكرانيا، الأمر الذي يرفضه الغرب خشية الانزلاق في «حرب شاملة في أوروبا»، إذ سيضطرون إلى الاحتكاك المباشر عسكرياً مع المقاتلات الروسية.

هذا العجز كان مثار انتقاد واسع في الرأي العام الأوروبي، داخل الاتحاد وخارجه.

منسق سياسات الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل تعرض لانتقادات لاذعة داخل التكتل الأوروبي بعد تصريحات اعتبر فيها أن الصين يجب أن يكون لها دور محوري في الوساطة لحل الصراع. واُعتبرت تصريحاته بأنها اعتراف بهشاشة أوروبا وعجزها عن حل مشاكلها القارية في فنائها الخلفي.

رسائل مشوشة

وقالت صحيفة «غارديان» البريطانية، إن المحاولات الأوروبية لوضع الصين كوسيط «تعكس الافتقار إلى خيارات أخرى»، و«حاجتها إلى تقليل تداعيات العقوبات على موسكو»، التي تضعف أوروبا نفسها. ووصفت الصحيفة ما يصدر عن الاتحاد الأوروبي منذ 24 فبراير بمجموعة من «الرسائل المشوشة».

ومن خارج الاتحاد، انتقدت صحيفة «غارديان» كذلك خطة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون المكونة من 6 نقاط، واصفة إياها بـ«الـ6 مبادئ الغامضة». وقالت إن الخطة التي قوبلت فعلاً بالتجاهل والنسيان «تشبه أفكاراً يمكن أن تخرج عن طفل صغير طُلب منه الحديث في مدرسة ابتدائية عن الحرب».

وأشار التقرير إلى أن قضية أوكرانيا ينظر إليها جونسون كفرصةٍ لشغل الرأي العام الداخلي عن فضائحه الأخيرة، من خلال الإدلاء بكثير من التصريحات على المسرح العالمي بشأن أوكرانيا.

نحو الكارثة بعيون مفتوحة

بنظرة أعمق، تحدث تقرير يعود لعام 2019 نشره موقع «ذا كونفرسيشن» الأكاديمي الأسترالي عن كيف يسير قادة العالم أحياناً «بعيون مفتوحة نحو الكارثة». وقال التقرير إن «بعض الكوارث السياسية تأتي دون سابق إنذار. وبعضها الآخر يمكن التنبؤ به».

ركز التقرير على تحليل أجواء ما قبل الحرب العالمية الأولى، كاشفاً «اختيار السياسيين للمسار الكارثي»، ما يؤدي غالباً إلى نهايتهم الحتمية. ويقول التقرير «كان قادة العالم يدركون أن الحرب الأوروبية ستجلب اضطراباً اقتصادياً واجتماعياً، وثورة سياسية، وموتاً جماعياً، لكنهم مضوا قدماً على أي حال».

هرمجدون

وأضاف: «تشارك قادة أوروبا آنذاك الرأي بأن الحرب ستكون هرمجدون (حرب نهاية العالم).. فلماذا لم يبتعدوا عن الكارثة؟». وبحسب الإجابة التي قدمها تحليل «ذا كونفرسيشن» فقد «تآمر مزيج سام من التمني، وسياسة حافة الهاوية، وتوجيه أصابع الاتهام» للوصول إلى تلك النتيجة (الانخراط في الحرب). هذه العوامل يمكن ترجمتها في مواقف الغرب وروسيا قبل أسابيع من اندلاع الصراع، حينما كان الطرفان يدفعان باتجاه حافة الهاوية، متبادلين اتهامات التصعيد، على أمل كل جانب أن يسهم هذا التصعيد في ردع الطرف الآخر.

ويقول التقرير إن السياسيين قبل الحرب العالمية الأولى صاغوا الأزمة على أنها خيار بين كارثتين، أحدها «خسارة المكانة والحلفاء»، فأصبحت الحرب أهون الشرين. ومع اقتراب أجواء الحرب، بدأ الساسة يبررون عدم قدرتهم على حل النزاع، ما سهل اندلاع الحرب، بل وسهل تقبل عواقبها المروعة نفسياً لدى العامة.

يتشابه ذلك مع الحرب النفسية الإعلامية التي تبنتها الإدارة الأمريكية مبكراً حينما دأب الرئيس جو بايدن على تكرار عبارة «الحرب الوشيكة» في تصريحات قبل أسابيع من اندلاع الصراع، بل ووصل الأمر إلى تحديد موعد لها سلفاً، تارة يوم 16 فبراير، وتارة «قبل ذوبان الجليد».