الثلاثاء - 30 أبريل 2024
الثلاثاء - 30 أبريل 2024

احتيال

غالباً نحن نذكر المدن بالطريقة التي نريد لها أن تكون لا كما هي في حقيقة الأمر، لأنه ليس بإمكان المدينة التي اختزلت جزءاً غير يسير من أعمارنا وأحداثنا المحورية وأفكارنا ألا تأتي في صورتنا الذهنية، محملة بذلك الكم الجيد من الانفعالات العاطفية التي تجعل المكان أكبر أحياناً، أو ساطعاً أكثر أحياناً أخرى. ورغم أننا قد نعود لاحقاً لنواجه المكان كما هو فعلياً، مجرداً من زخرف الذاكرة إلا أننا بمجرد مغادرة ذلك المكان العابر، نعود في ذهننا بشكل لا واع إلى صورة المكان الأول كما كان لا كما أصبح عليه، لأن تلك الصورة المبهمة المجتزأة من ذاكرتنا المشحونة بالعواطف هي الروح الفعلي للمكان، هي إنسانيته التي يدركها فقط من عايشوا تلك التجربة الشعورية في المكان ذاته في زمن محدد. هل هناك مدينة بدون ذاكرة وروح؟ هل لنا أن نطلق هذا الحكم السريع على أي مكان بمجرد قضاء يوم أو يومين أو حتى أسبوع سياحي فيه، متناسين أن لكل الأماكن كما لكل الحقائق أكثر من وجه، هل عرفنا شخوصه بما يكفي لنطلق الحكم؟ هل يجب أن نعتمد على انطباعنا بشكل كاف لنقرر أي مكان يملك ذاكرةً؟ أظن أننا هناك ننتقص من إنسانيتنا بقدر ما نسلب من المكان روحه، حتى أكثر المدن الموحية بانطباع أول بشراستها وقوتها وعلو مبانيها بأنها قد انسلخت من الماضي بالكامل، لكن الأمر هنا معتمدٌ على قدرتك على التواصل الإنساني حتى مع المكان، على البحث والسؤال عن تلك الذاكرة والوجوه وبناء الحوارات الخلاقة التي ستقودك إلى تلك الروح، التي حاولت تلك المدينة أن تحجبها عنها مانحةً إياك ذلك الانطباع الأول حتى تستطيع أن تكسب ثقتها. في رواية حديث ليلي للسلوفاكي «لاديسلاف مناتشكو»، يعود بطل العمل للتفاعل مع مدينة «درسدن» الألمانية فيما أعقب الحرب العالمية الثانية وبعد إعادة تأهيل المدينة، ورغم أن ذاكرته مع المدينة خلال الحرب كانت ذاكرة الألم إلا أنه لم يستطع أن يتفاعل مع الشكل الجديد للمدينة لأن الروح التي التقى بها مع الشخوص والذاكرة والمدة التي تسمح له بتكوين تلك الذاكرة بجميع سطوعها والعتمة، كانت هناك في الأربعينيات من القرن الماضي، فرغم كل الألم، كان للمدينة روحها، ورغم كل المخرجات العصرية الحديثة التي قد تجعل الأماكن متشابهة إلا أن لكل مدينة شيئاً لا يشبه المقام في أي مدينة أخرى، يرتبط بقدرتك على التعمق وصناعة الذاكرة الخاصة بدلاً من إطلاق الأحكام السياحية العابرة. s.obaid@alroeya. com