السبت - 27 أبريل 2024
السبت - 27 أبريل 2024

استهلاك المَسَاكين.. و«هوس الملايين»

حديثُ الناس عن الملايين اليوم، يتعدَّى المشروعيَّة والأمنيات إلى الهوس، حيث أصبح الرقم مصاحباً لكل أفعالنا على الصعيد العالمي، ويطغى اليوم عبر منصات التواصل الاجتماعي سعي جنوني لكسب ملايين المشاهدات والتعليقات، في رحلة انتقال ـ إجبارية واختيارية في آن واحد ـ من الواقع إلى عوالم افتراضية قد تكون مسارنا في تجليّات الحقائق، وهي بذلك لا تقرُّبنا من الآخرة زُلْفى ولكن تدخلنا فيها.

الدافع لذلك كله لهث معاشي يومي لا يحركه الجوع ـ حتى لو وصل إلى درجة المسْغَبَة ـ إنما تدفع نحوه وبه حاجات العصر، وهي أغلبها استهلاكية بشكل مَرَضِي، تعمّق الطبقات على مستوى الدخل، وتزيله على مستوى الاستهلاك.

الجري اليومي بشروط الاقتصاد المحلي والعالمي لاعتقاد وهمي أو حقيقي بتغيير حياتنا نحو الأفضل، ولّد لدى الناس جميعهم شعوراً عاماً بالبحث عن أسهل السُّبل بما في ذلك تغيير معاني الِقيم، حتى أصبحت في ظاهرها اجتهاداً دينيّاً أو أخلاقياً من ناحية مواصلة العمل وتثمينه، وفي باطنها لهواً دنيوياً وعبثاً حياتيا.


وذاك الشعور العام نقلنا ــ دون قصد ــ من تقييم أفعالنا لجهة التمييز بين الخطأ والصواب (دينيّاً حلال وحرم) إلى اعتبار كل أفعالنا عالمية المنبع والمصب، الوسائل والأهداف، وبذلك غَدَت هدفاً وجوديّاً، يتم التعويل فيه على أمرين، الأول: ضربة حظّ، يتم فيها القفز طبقياً من الأدنى إلى الأعلى، وهذه نادرة الحدوث، والأمر الثاني: المبالغة والتضخيم لكل فعل نقوم به من أنه سيوصلنا لا محالة إلى غنى هو أقرب إلى المستحيل، لسببين، الأول: أن الغنى في ظل الاستهلاك الشامل ليس واحداً، والسبب الثاني: تغير مفهوم الغنى ذاته، طبقا لحاجات الأفراد، وأنماط استهلاكهم.


بالتعمّق أكثر، سنجد أننا لا نمشي الهُوَيْنا في حياتنا المعاصرة لأجل تغييرها ـ معاشيّاً ـ نحو الأفضل، أو هكذا يُخيَّل لنا، كما أننا في سباق الزمن بيننا لأجل أن يكون قلّة منا من أصحاب الملايين، نترك خلفنا يوميّاً أناساً تحت خطّ الفقر، وإذا كانت الأرقام تتحدث دائماً عن زيادة في عدد «المليونيرات» في العالم، فعلينا أن نتذكّر دائماً أن عدد المساكين والجوْعَى في زيادة مطّردة، ورغم الفجوة الشاسعة بين الفريقين، إلا أنهما في أساسيّات الحياة وخاصة الغذاء والدواء يخضعان لنمط استهلاكي واحد، كلفته غير مرتبطة بدخل كل منهما، ومع ذلك لم نعد مُهتميِّن كثيراً في هذا المجال بتقلص الفوارق الطبقية وتراجعها، أو حتى انعدامها بشكل نهائي عند الاستهلاك.