يمثل الإنسان نقطة تكوينية رفيعة في مكنون هذا الوجود، ليعبّر عن جماليات سر إبداعاته من خلال منظومة معقدة من المتناقضات لا يستطيع الاستمرار دونما توازن بين كفتي الميزان «الإفراط، والتفريط». وأتت أساطيره، أي هذا الكائن، وفلسفاته، وأديانه الوضعية، كمحاولة لضبط قسطاس معياره. إن صراع الإنسان مع غيره هو حالة سرمدية، إذ نشأت المجتمعات وتطورت، فظهرت أهمية وجود القيم الأخلاقية التبادلية نحو «الأمن، المحبة، التسامح، والتعاون»، وركيزة تلك القيم تكمن في «الصدق» ليظهر مدلول «الصداقة»، فالصديق الصدوق هو الذي يحقق بقلبه وعمله ما أظهره لسانه. لذا، فإن العرب قديماً ذكرت أن المستحيلات ثلاثة: «الغول، العنقاء، والخل الوفي»، على اعتبار أن الصديق إنسان له حياته الخاصة ومشاعره، ومتطلباته قد تتعارض كلياً أو جزئياً. وفي المقابل، نجد أن الصداقة علاقة اجتماعية بين شخصين أو أكثر تعتمد على المودة والتعاون، وتتعلق بسمات شخصية، قدرات، اهتمامات، وظروف اجتماعية، يحتاج إليها الفرد في كل مراحل حياته. ففي الطفولة تساعد على نقل الأطفال من محيط الأسرة إلى محيط جماعة الرفاق في الحضانة، إذ تساعد على تعزيز المهارات والسمات المرغوب فيها اجتماعياً ليدركوا واقع ذواتهم من خلال التخاطب، اللعب الجماعي، والمشاركة، أما في مرحلة المراهقة فهي تساعد على تمكين قيم المشاركة والإفصاح عن المشاعر والأفكار، وتكوين علاقات تتسم بالثقة المتبادلة، وقد تؤثر في التحصيل العلمي. عليه، يمكن القول إن الصداقة كقيمة أخلاقية نوقشت داخل دائرة الفكر الإنساني منذ بداياته في شكل اتجاهين متناقضين: اتجاه يعزز قيم الصداقة عند الفيلسوف اليوناني أرسطو 384 ق. م - 322 ق. م، فهو أحد تلاميذ أفلاطون ومعلم الإسكندر الأكبر، وذكر أن الصداقة تجعل الإنسان مدنياً، لأنه لا يستطيع أن يعيش بمفرده، فالصداقة توفر له فرصاً كثيرة نحو تحقيق ذاته ليجسد الفضائل التي تسمو به نحو الكمال، ليحقق الاستقرار، فهي ضرورية للمجتمعات، لأنها تجنب التوترات والقلاقل وتفتح مجالاً للتعاون يعود بالخير، تقع في وسط بين خلقين: القبول «القادر على تكوين صداقات»، والشراسة «صعوبة التعايش معه»، فهي عطف متبادل بين شخصين، إذ يريد كل منهما الخير للآخر، كما ميز بين ثلاثة أنواع للصداقة «المنفعة، اللذة، الفضيلة»، وأسماها القائمة على الفضيلة. على النقيض، نجد الفيلسوف الألماني فريديك فيليهم نيتشه 1844 -1900، فيلسوف الأنانية، التشاؤم، والكآبة، ركز على أن المسيحية عندما أعلت قيم المحبة والتسامح عملت على انحطاط النمط الأخلاقي الصائب الموجود في الفلسفة اليونانية، التي مجدت القوة. لذا، فقد استخف بقيم الرقة، النعومة، وطيبة القلب التي رآها في المسيحية، معتبراً أن محبة الذات جوهر الروح النبيلة. من هنا، قوّم الأنانية وحب الذات بأهم صفات الإنسان العاقل النبيل، رافضاً كل قيم التعاون، المحبة، والتسامح، ولفظ الصداقة لانعدام وجودها، ليخرج بنظريته اللا أخلاقية «الرجل المسيطر المستخدم القوة لفرض هيمنته القائمة على البطش والاستخفاف بالضعفاء أطلق عليه السوبرمان ليؤسس لشريعة الغاب أو البقاء للأقوى»، ومنبع ذلك مفهومه للصدق، عندما قال «لا أفهم سبب ممارسة الوشاية، يكفيك أن أردت أن تغيط أحداً أن تقول عنه شيئاً صادقاً». بيد أننا نعتقد أن الحب أعمق من الصداقة، لأنه يستوعب مكونات الصداقة، ويضيف عليها البصمة النفسية بين المحبين المتمثلة في التفرد والإخلاص، لتنعم البشرية بقيم التعارف والتعاون، والمحك في ذلك مقياس التقوى كما جاء في قوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} الحجرات، آية 13. وهناك حقيقة على مدى وجود الإنسان على هذه الأرض لا يمكن إنكارها، المتمثلة في وجود الرذائل بجانب الفضائل الأخلاقية، فصراع القيم صراع أبدي، على اعتبار أن قيم الصداقة النبيلة امتزجت برذائل النفاق من «كذب، أنانية، حب السيطرة، والجشع»، نتج عنه ذلك الاستغلال للأفراد والجماعات وحتى الدول، فظهرت حروب المصالح، وقضايا الفساد، والظلم في كل مجالات الحياة .. الحكام، القادة، المديرون، ولم تسلم الأسرة من داء النفاق والكذب باسم الصداقة، بسبب ما يمكن أن نطلق عليه «النفاق الاجتماعي» ليمتد إلى تفشي قضايا الشك حتى في الأصدقاء الفضلاء، على اعتبار أن أخطر أنواع النفاق ما يرتكز على مبدأ التشكك في كل الحقائق والأشخاص. للتواصل مع الكاتب m.khedr@alroeya.com