جورج فهيم

استنساخ النموذج الإماراتي في التنويع الاقتصادي

تحديد سعر عادل للنفط الذي يمثل عصب الاقتصاد العالمي، يشبه البحث عن إبرة وسط كومة من القش، فعندما ترتفع الأسعار تنتعش اقتصادات الدول المنتجة وتعاني اقتصادات الدول المستهلكة، وعندما تنخفض الأسعار تعاني اقتصادات الدول المنتجة وتنتعش اقتصادات الدول المستهلكة، وفي كلتا الحالتين لا يجد الاقتصاد العالمي أرضية صلبة يقف عليها لتحقيق نمو مستدام يضمن ازدهار التجارة العالمية واستقرار الأسواق.

وينطبق ذلك بصفة أساسية على الاقتصادات الخليجية التي تحتاج وسط هذا البحر العاصف إلى تلمس خطواتها وفهم التطورات المتلاحقة التي تمر بها أسواق النفط العالمية، حتى يمكنها الإبحار بسلاسة وحماية مسيرتها التنموية من تقلبات أسعار النفط التي تجعل من ميزانياتها ريشة في مهب الريح.

وهذا تحديداً ما يحاول كتاب «تطورات أسواق النفط الراهنة وانعكاساتها على دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية»، الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الإجابة عليه.

* تغير خريطة النفط العالمية

في الفترة بين عامي 2000 و2002 ارتفعت أسعار النفط إلى 115 دولاراً للبرميل، لكنها عادت في الفترة بين عامي 2008 و2014 إلى الانخفاض لمستوى 40 دولاراً للبرميل.

وسعى البعض إلى تفسير هذا الانقلاب على اعتبار أنه مؤامرة عالمية على أسعار النفط، متجاهلين العوامل الفنية التي طرأت على أسواق النفط والتغييرات المتلاحقة في سياسات وتقنيات الإنتاج، وانتقال مركز ثقل الاقتصاد العالمي من الغرب إلى الشرق، وتبدل خريطة التحالفات والمصالح الدولية.

أخبار ذات صلة

سوق أبوظبي يستقر أعلى 9400 نقطة عند الافتتاح
سلطان الجابر: الأمن والاستقرار وجودة الحياة أحد أهم ممكناتنا الصناعية


وتغيرت ملامح المشهد النفطي بصورة جذرية مع ثورة النفط الصخري الأمريكي التي تركت بصمات قوية على أسعار النفط، إذ ارتفع إنتاج النفط الصخري الأمريكي بنسبة 140 في المئة منذ عام 2008، وأصبح يشكل نحو 70 في المئة من إجمالي النفط الأمريكي، ما رشح الولايات المتحدة لأن تكون مصدراً صافياً للنفط الخام والمكرر بحلول 2020.

وبحسب تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية، بلغ إنتاج النفط الصخري الأمريكي 12.5 مليون برميل يومياً في منتصف شهر فبراير الماضي.

ولا يمكن بطبيعة الحال تجاهل تأثيرات صعود نجم الغاز الطبيعي في أسواق الطاقة العالمية، إذ تشير التقديرات إلى أن نصيب الغاز والطاقة المتجددة من إجمالي المعروض العالمي من الطاقة قد يصل إلى 54 بالمئة بحلول 2040، مقابل 36 بالمئة حالياً، إذا استمرت حكومات العالم في تبني سياسات الحفاظ على البيئة.

وترافق ذلك مع تزايد الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة تماشياً مع روح اتفاق باريس للمناخ، إلى الحد الذي دفع البعض إلى التنبؤ بنهاية حقبة النفط، رغم أن مصادر الطاقة البديلة لا تلبي سوى اثنين في المئة فقط من الطلب العالمي على الطاقة حالياً.

وأسهم انتشار المركبات الكهربائية في الحد من الطلب على النفط في ظل تنافس شركات السيارات العالمية على تطوير أجيال من السيارات الكهربائية بأسعار تنافسية قادرة على قطع مسافات طويلة.

ولعبت عمليات المضاربة في عقود النفط دوراً مهماً في تشويه هيكل الأسعار، ما جعل سعر برميل النفط ثلاثة أضعاف سعر استخراجه، وبعبارة أخرى فإن المضاربات تضيف 45 دولاراً تقريباً لكل برميل نفط.

وقاد شعار «أمريكا أولاً»، الذي رفعه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى حرب تجارية أسفرت عن فرض رسوم جمركية عقابية على قائمة طويلة من السلع بقيمة تفوق 200 مليار دولار، ما جعل آفاق نمو الاقتصاد العالمي قاتمة وخفف من نمو الطلب على النفط.

وترافقت الحرب التجارية مع تحولات جذرية في الاقتصاد الصيني، الذي انتقل من استراتيجية نمو تقوم على التصدير إلى استراتيجية نمو تقوم على الاستهلاك المحلي، تبدلت معها أولويات الصين للحفاظ على البيئة وتقليص مستويات الديون ما أدى إلى خفض معدل النمو الاقتصادي المستهدف من 11 في المئة عام 2008 إلى نحو ستة في المئة فقط في 2018.

* أوبك تتصدى لغزو النفط الصخري

وسط هذه التغييرات الجذرية شعرت منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، التي تمثل الدول الخليجية نصف طاقتها الإنتاجية، أن استراتيجيتها القديمة القائمة على رفض خفض الإنتاج للحفاظ على حصتها السوقية لم تعد مناسبة، وأنه لا بد من استراتيجية جديدة تقوم على خفض الإنتاج للحفاظ على الأسعار.

ولم تستهدف الاستراتيجية الجديدة فقط مواجهة غزو النفط الصخري، الذي يستفيد من ارتفاع الأسعار لزيادة الإنتاج، وإنما أيضاً لاستقطاب المنتجين من خارج المنظمة، وفي مقدمتهم روسيا، لتكوين تحالف أوسع يسيطر على نحو 90 في المئة من احتياطات النفط العالمية المؤكدة، ونحو 55 في المئة من إجمالي إنتاج النفط.

واستهدف هجوم (أوبك) المعاكس، الذي قادته السعودية في المقام الأول، ضمان سعر عادل للنفط يمكّن ميزانيات دول الخليج من مواجهة تقلبات أسعار النفط ويتيح لها مواصلة مسيرة التنمية والتحديث.

وتسعى الكثير من الدول الخليجية الآن إلى استنساخ التجربة الإماراتية في التنويع الاقتصادي وعدم الاعتماد على أسعار النفط التي يجب أن تتراوح بين 65 و113 دولاراً من أجل الوصول إلى نقطة تعادل المصروفات والإيرادات في أغلب ميزانياتها.

ورغم أن دول الخليج تملك فوائض مالية ضخمة تمكنها من تجاوز تراجع أسعار النفط ومواصلة تمويل مشروعات التنمية دون الحاجة إلى الإفراط في الاقتراض تفادياً لتراكم الديون واتساع عجز الميزانيات، الذي يؤثر في جدارتها الائتمانية، إلا أن التغييرات في أسواق النفط تفرض على دول الخليج اتباع منظومة متكاملة من الإجراءات لزيادة مرونة ميزانياتها.

ويأتي في مقدمة هذه الإجراءات تحرير أسعار الطاقة لتقترب من الأسعار العالمية للقضاء على الإسراف في استهلاك الطاقة، ومحاربة ظاهرة تهريب المشتقات البترولية عبر الحدود، وقد خطت كل من الإمارات والسعودية خطوات كبيرة في هذا الاتجاه من خلال استهداف تقليل استهلاك الطاقة بنسبة 30 في المئة بحلول 2030.

وبالتوازي مع ذلك تحتاج دول الخليج إلى توحيد أسعار الطاقة فيما بينها للقضاء على الدعم الكبير الذي تستنزفه المحروقات.

وبطبيعة الحال، فإن تحقيق هذا الهدف ليس بالأمر السهل، لأن رفع أسعار الطاقة بصورة مفاجئة يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع التضخم وإضعاف العملات الخليجية، ولتفادي ذلك لا بد من تهيئة البيئة الاقتصادية واتباع منهج تدريجي.