بقلم: سميرة الحوسني باحثة وتربوية ـ الإمارات

تبدو الحقائق، كتلك الخيوط الفضية الرفيعة التي تربط النجوم بعضها ببعض، وتترك لنا السماء سراجاً وهاّجاً، إلا أننا لا نأبه لجمالها ولا نكترث لوجودها، لأن جهلنا البشري المعتاد لا يستدير نحو الماهية بقدر استدارته حول الظاهر.. تلك الحقائق المثيرة الكثيرة التي نجهلها وسنبقى لها جاهلين، ولعل أبرزها حقيقة سلوكنا.

لطالما أخذ السلوك حيزاً غير بسيط من التعمق والدراسة لدى علماء الاجتماع وعلماء النفس والأنثروبولوجيين والتربويين كذلك، ولا تزال الدراسات في تصاعد وتكاثر تحت وطأة الثورة الصناعية الرابعة وآثارها الجمة على السلوك البشري بكل أبعاده و موازينه، وهي توضح في معظمها، و لن أقول أثبتت، وكل الشواهد في السلوك إثبات، أنها العلاقة الطردية التي اعتدنا على سماعها وانتهاجها، والتي جمعت السلوك البشري بالرغبة سواء الرغبة في الطلب أو في الوصول أو في الحيازة أو الإنجاز، إذ كلما زادت الأخيرة اندفع الأول، إلا أن إيماني يأتي بعيداً بعض الشيء عن هذه النظرية لأطرح رؤيتي في ذلك هنا، والتي قد تختلف بعض الشيء عن تلك العلاقة الطردية القديمة لأرى نظرية أقدم من تلك وأنسب لعصرنا الحالي و لعلها كانت أنسب للبشر على مر العصور.. إنها نظرية «إينخيدوانا» السومرية، التي لم تدونها مباشرة.

إنني، وفي كل مرة أغوص في تصفح سومر وحضارتها الأولى، تظهر أمامي تلك الخيوط الفضية الرفيعة التي تجعلني واثقة من أن هذه الحياة هي حقل ورد وسكر إن استدرنا لتلك الخيوط حقاً، فإنخيدوانا أو إنهيدوانا ابنة الملك سرجون الأكدي وأول شاعرة في التاريخ البشري وأول من كتب التراتيل والتسابيح، كونها الكاهنة السومرية الكبرى لإله القمر «نانا»، قبل2300 سنة قبل الميلاد، أي قبل شاعر الإلياذة الإغريقي هوميروس بـ11 قرناً، وبعيداً عن التكهن والتدين كانت قادر ة، وفي أصعب الأزمنة البشرية على أن تجعل من الغضب حين يعتريها أملاً، وتحول تراتيلها إلى دموع شافية من الحقد والضغينة تتبعها بصلوات الحب للعالم أجمع.

رأيت أن العلاقة التكاملية في سلوكنا والمختلفة عن الطردية والعكسية، هي تحويل الشر إلى خير، والقبح إلى جمال، ولن يكون الجمال يوماً قابعاً في وجهٍ أو مظهر لا يمتلك ذلك التحويل التكاملي.. إنه ذلك السلوك التكاملي الذي يمنعنا من التجسس على من نحب، فأخلاقيات الحب لا يليق بها التجسس وإلا فالتأكد حينها أنه ليس حباً بل فضول الضعف الخائب، وإنه ذلك التكامل في السلوك، الذي يمنع الإحساس بالتملك الكامل للأشياء والأشخاص، ففكرة الزوال مهيمنة على الجميع وأولهم الإنسان نفسه، والذي قد يزول قبل زوال ما اعتقد يوماً أنه ملكه الخاص.

إنها التكاملية في النزاهة والرفعة عن اللوم إذا زجَّت بنا الرياح في قارورة ليس لها عنق ولا مخرج.. إنها تلك الصلوات التي تخلو من السباق مع الزمن ومن بشاعة الطلب، فحتى هذه اللحظة يكاد بدني يقشعر من تلك الصلوات التي تحمل دعوات الكره والانتقام، وتبتعد بعداً حقيقياً عن هدف الصلوات التي خُلِقت لأجله والتي يجب ألا تحمل سوى السلام والحب معاً، ولكنها ـ وبالتأكيد ـ لمن جهل السلوك التكاملي ورضي بتشويه الروح واستدار بعيداً عن الخيط الفضي وعن تراتيلك يا إينخيدوانا.

أخبار ذات صلة

ليوم آخر..
الثانية عشرة إلا فرحاً