بقلم: كمال أحمد كاتب وباحث ـ سوريا

لا شك أن المتنبي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس منذ ما يزيد على ألف وخمسة وأربعين عاماً، هناك ما يميُّزه ويصطفيه عن أترابه وأسرابه في تلك الحقبة، وبغية الوصول لما نرمي إليه، وهي سر شهرته وخلوده في ذاكرة الأجيال المتتالية، سنسعى إلى ذلك من خلال هذا العرض.

يقول الروائي البرازيلي باولو كويلو في روايته «الخيميائي»: إن لكل ذي نباهة أسطورته الشخصية يسعى من خلالها لتحقيق ذاته».. لهذا يخرج البعض عن السائد والمألوف، كل في حقله ومجاله، أكان هذا الفضاء وهذا الحقل أدباً، أو شعراً، أو سياسة، والتغريد خارج السائد والمألوف، يدفع صاحبه أثماناً جسيمة، قد تصل إلى مقتله كما هي حال المتنبي.

وهناك كثير من الشعراء اتخذوا مواقف خارج مألوف مجتمعاتهم من ذلك مثلاً: من وصف مفاتن المرأة، كما هي حال عمر بن أبي ربيعة الأموي وأبو نواس العباسي، ولكن هناك من شذّ عن المألوف السائد في فضاء التغزل بمفاتن وجمال المرأة، ومنهم دوقلة الشامي المنبجي، عند وصفه الأعضاء الخفية للأميرة اليمانية الممدوحة (دعد) في قصيدته اليتيمة التي خلدته، وقتل أيضاً على إثرها، كما أورد الباحث العراقي باقر ياسين، في كتابه «القصائد التي قتلت أصحابها»، وكذلك ما ورد في كتاب «أسماء من قتل من الشعراء» لابن حبيب.

وهناك نموذج آخر من الشعراء، ركز على قضايا ذات طابع تحرري، مسَّت المعتقد العام للمجتمع، من ذلك شاعرنا السوري نوفل إلياس، الذي ربما يكون أغضب المعبد بقصيدته في «احتفالية إحياء ذكرى جبران» في بيروت.

في هذا السياق، يمكننا الاستدلال على تغريد المتنبي خارج السرب السائد، ومغالاته كثيراً في نرجسيته وكبريائه وغروره، وتقييم نفسه، في الفضاءات المختلفة، في الشعر، والنحو، والسياسة.. وغيرها، مما أكثر من خصومه وأعدائه، وأدى في النهاية إلى مقتله، حيث كان مغالياً حتى في هجائه ،كما ورد في هجاء كافور، وكذلك هجاؤه ضبة حيث كان شنيعة العبارات، وطعناً في الشرف.

أخبار ذات صلة

طاقة الألوان وتأثيرها النفسي على حياتي
أعجبني فقلت..


هنا يمكن ذكر بعض الأمثلة مما قاله من خلال قصائده الـ323 قصيدة، وهي جملة آثاره الشعرية، فعلى الصعيد الشخصي، قال في قصيدته «محبي قيامي ما لذلكم النصل»:

أمِطْ عَنكَ تَشبيهي بمَا وَكَأنّهُ فَمَا أحَدٌ فَوْقي وَلا أحَدٌ مِثْلي

وَذَرْني وَإيّاهُ وَطِرْفي وَذابِلي

نكنْ واحداً يلقى الوَرَى وَانظرَنْ فعلي

وعلى الصعيد السياسي اشترط على سيف الدولة أن ينشد مدائحه وهو قاعد، وألا يكلفه بتقبيل الأرض بين يديه، وقبِل سيف الدولة شروطه، ثم إنشاده أمامه وفي مجلسه، من جملة ما أنشد البيت التالي هذه الأبيات من قصيدته «واحرَّ قلباه ممن قلبه شبم»:

سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ

أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِم

وفي ادعائه للنبوة، في قصيدته «كم قتيل كما قتلت شهيد»:

مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُود

أنَا تِرْبُ النّدَى وَرَبُّ القَوَافي وَسِمَامُ العِدَى وغَيظُ الحَسودِ

أنا في أمة تداركها الله

غريب كصالح في ثمود

كما يظهر خروجه عن المألوف في الهجاء أيضاً، كما في قصيدته «ما أنصف القوم ضبّه وأمه الطرطبه» وأدت إلى قتله، حيث يقول:

ما أنصف القوم ضبة وأمُّه الطُّرطبَّة

وَما يَشُقُّ عَلى الكَلب أَن يَكونَ اِبنَ كَلبَة

وهكذا تمكن المتنبي من أن يحقق أسطورته الشخصية (وفق ما ذكره باولو كويلو ) طبقاً لرؤيته الخاصة، ودفع الثمن حياته على يد قاتله «فاتك بن أبي جهل الأسدي» خال ضبَّه.