محمد منصور

في عام 1936، ولد العالم الألماني هارالد تسور هاوزن في مدينة غيلسنكيرشن بوير الألمانية، درس الطب في جامعات بون وهامبروغ ودوسلدورف، وحصل على ترخيص ممارسة الطب في ألمانيا، ثم انتقل لاحقاً إلى مختبر علم الفيروسات في جامعة فورتسبروغ ومنها إلى جامعة فرايبورغ، ليستقر به المطاف عام 1983 في المركز الألماني لأبحاث السرطان، الذي كان شاهداً على اكتشافه الأهم: المُسبب الفيروسي لسرطان عنق الرحم.

في عام 2008، وتقديراً لجهوده في اكتشاف «الجذور المعدية» لسرطانات عنق الرحم، تقاسم هاوزن مع كل من فرانسواز بارس سينوسي ولوك مونتانييه جائزة نوبل للطب. ذهب نصفها لهاوزن فيما ذهب النصف الآخر إلى العالمين الآخرين لاكتشافهما الفيروس المُسبب لمرض نقص المناعة البشرية، المعروف على نطاق واسع باسم «الإيدز».

التقت «الرؤية» هاوزن في مدينة ليندوا الألمانية، خلال الاجتماع السنوي للفائزين بجائزة نوبل، لتحاوره حول رؤيته للمستقبل، والتحديات التي ستواجه البشرية، وإلى أين قد يصل بنا العلم بعد عقود.

• فزت بجائزة نوبل لاكتشافك فيروسات الورم الحليمي البشري التي تسبب سرطان عنق الرحم.. بعد أكثر من 10 أعوام على فوزك بالجائزة، كيف غيّر اكتشافك طريقة فهمنا للسرطان؟

أعلنت ذلك الاكتشاف على الملأ عام 1974 خلال اجتماع عُقد في ولاية فلوريدا الأمريكية، وقتها قابلت موجة من الهجوم والاعتراضات، إذ لم يكن أحد ليصدق أن «العدوى» يمكن أن تسبب نوعاً من السرطان.

حرصاً على ألا يختلط علينا الأمر، وحتى أكون واضحاً وأتحدث دون أن يسبب حديثي أي لبس، يجب أن أؤكد هنا أن السرطان مرض غير معدٍ على الإطلاق، بمعنى أن مريض السرطان لا يمكن أن ينقل مرضه إلى شخص آخر، لكن فيروسات الورم الحليمي البشري التي يمكن أن تنتقل من شخص إلى آخر ربما تسبب سرطان عنق الرحم عند السيدات، وهو فرق ضخم للغاية.

أخبار ذات صلة

خطة مبتكرة من ماسك لزيادة إيرادات تويتر
أبل تعتزم تقديم شاشة حاسوب ماك تعمل باللمس


أسهم ذلك الاكتشاف في إعداد أول تطعيم ضد نوع من السرطان، ففي عام 2006، قبل فوزي بالجائزة بعامين كاملين، تمكن فريق بحثي من تصميم لقاح يمكن أن يمنع الإصابة بسرطان عنق الرحم.

اعتمد تصميم اللقاح على معطيات مستخرجة من أبحاثي الخاصة بفيروسات الورم الحليمي البشري، ويمكن أن تمنع تلك اللقاحات الإصابة بالسرطان بنسبة لا تقل عن 60 %.

يمكنني القول إن اكتشافاتي ساهمت إلى حد كبير في التوصل لذلك اللقاح القادر على إنقاذ ملايين البشر حول العالم، ومنع إصابتهم بسرطان عنق الرحم، حتى في حالة انتقال الفيروسات المسببة له.

• تشير بعض الأبحاث العلمية الجديدة إلى أن بعض أنواع البكتيريا التي تصيب الرئة، أو الخلل الحادث في البكتيريا المعوية، أو حتى بعض الالتهابات التي تحدث في سحايا الدماغ، يمكن أن تسبب سرطانات متعددة كسرطان الرئة والقولون. هل تقودنا تلك الأبحاث إلى صناعة لقاحات في المستقبل تحمي من الإصابة بالسرطان؟

تتسبب الكائنات المُمْرضة التي تصيب الإنسان في حدوث مجموعة من الالتهابات في الخلايا والأنسجة، ويمكن لتلك الالتهابات أن تسبب تغييرات في هيكل الحمض النووي، ما قد يؤدي إلى تحول الخلايا الطبيعية إلى خلايا سرطانية.

لتبسيط الأمر، دعنا نتحدث عن نوع واحد من أنواع السرطان، ألا وهو سرطان القولون. يسبق الإصابة بمعظم سرطانات القولون حدوث التهابات حادة تُحدث خللاً في الحمض النووي، ينتج عنها تكوين زوائد غير سرطانية تُسمى «البولبيات». في الأغلب تحدث الالتهابات في الأساس بسبب وجود أنواع معينة من الكائنات الدقيقة المُمْرضة في القولون، تقوم تلك الكائنات بإفراز مواد كيميائية تسبب ضرراً في المكان، فتأخذ أجسادنا إجراءات مضادة لاحتواء الضرر عبر تكوين دفاعات في المنطقة المتضررة. تتراكم الخلايا وتكون الزوائد، وبعد وقت قصير تتحول تلك الزوائد إلى أورام سرطانية.

حال تحول الزوائد إلى سرطان، يصبح الوقت متأخراً على العلاج.. لكن ماذا لو تمكننا من منع تكوين تلك الزوائد من الأساس؟ هذا ما نود فعله حقاً.

• من الأدوات التي يمكن استخدامها في ذلك الأمر «اللقاحات» التي تمنع أصلاً البكتيريا من إفراز المواد الالتهابية وبالتالي تمنع حدوث السرطان. يمكن أن تؤدي تلك اللقاحات إلى منع السرطانات التي تتطور بسبب الإصابة بالالتهابات المزمنة.. لكن ماذا عن السرطانات الوراثية؟

في حالة الأورام السرطانية الناجمة عن عوامل وراثية، يحاول العلماء الآن تصميم لقاحات على شكل «بروتينات حيوية» تقود الجهاز المناعي للتعرف على الأورام السرطانية في بدايتها. تعمل تلك اللقاحات كـ«علامة بيولوجية» تزود الجهاز المناعي بمعلومات حول مختلف الخلايا السرطانية، إذ تعد تلك اللقاحات بمثابة «مرشد» يقوم بإرشاد جهازنا المناعي إلى الخلايا ذات الانقسام المفرط، وبالتالي يدمرها الجهاز المناعي قبل بدء الانقسام أو تكوين الأورام العصية على العلاج.

أصبح في حكم المؤكد أن المستقبل سيشهد تطوير عدة أنواع من اللقاحات التي ستستخدم في منع الإصابة بعدد كبير جداً من الأورام السرطانية، على رأسها سرطان القولون وسرطان الثدي وسرطانات الغدد الليمفاوية وسرطان الرئة والكبد.

• هناك هجمة شرسة يشنها بعض المتشددين شرقاً وغرباً ضد التطعيمات.. هل تتوقع أن تلقى التطعيمات التي تقي من السرطان هجمات من هؤلاء؟

تجتاح العالم اليوم موجات من رفض التطعيم واللقاحات، وفي العام الجاري صنفت منظمة الصحة العالمية تلك الموجات بوصفها واحدة من أكبر 10 تهديدات للصحة العالمية.

لكل شخص الحق في رفض تناول ما يراه غير مناسب لأفكاره أو معتقداته، شريطة ألا يؤثر ذلك في حياة من حوله. وبالنسبة للتطعيمات الخاصة بالسرطان والتي أتوقع ابتكارها في المستقبل القريب، فمن حقك الاختيار بالطبع.

لكن ماذا عن تطعيمات شلل الأطفال والالتهابات السحائية والأمراض الصدرية؟ يجب أن تكون إلزامية بحكم القانون في كل دول العالم. هذا أمر يجب ألا يخضع إطلاقاً للاختيارات. حماية الأطفال واجب عالمي، ومنع انتشار تلك الأمراض واجب أيضاً، ولا يمكن أن يكون أمراً خاضعاً لهوى الأشخاص ورغبتهم الخاصة.

سلامة التطعيمات أمر مفروغ منه من الناحية العلمية. وأدعو كل دول العالم لسن قوانين رادعة تجاه من يشكك في جدواها أو يدعو إلى عدم تناولها.

• بالحديث عن مستقبل التطعيمات.. كيف ترى مستقبل البشرية بشكل عام؟

أستطيع أن أتحدث عن مستقبل العلاجات الخاصة بأمراض السرطان أو مستقبل الطب بشكل عام.

هناك ثورة تحدث الآن في المجالات الطبية، يمكن بناء مجموعة من التكهنات عليها، وأعظم تلك الثورات على الإطلاق ابتكار أدوات تتعلق بالتعديل الجيني.

قبل أعوام ابتكر مجموعة من العلماء أداة للتعديل الجيني تُسمى «كريسبر- كاس9»، وستشكل تلك الأداة مستقبلنا دون جدال. يمكن استخدام تقنية «كريسبر» لتخليق أجنة في المعمل دون أمراض وراثية. وباستخدامها سيتمكن العلماء من إزالة الجينات المسببة للأمراض الوراثية من الأجنة، ما يمنع أصلاً الإصابة بهذه الأمراض.

ويستطيع العلماء باستخدام تلك الأداة قص الجينات المعيبة ووضع جينات سليمة مكانها أو حتى استخدامها في علاج أمراض التنكس العصبي كالشلل الرعاش والزهايمر. هي أداة ثورية بحق، وسيكون لها شأن عظيم مستقبلاً.

• تقنيات التعديل الجيني تواجه مجموعة من المخاوف الأخلاقية ولا يزال أمامها الكثير من العقبات العلمية، كما أن هناك مخاوف تتعلق بتعديل الأجنة لإكسابها قدرات عقلية أو جسدية خارقة، ما يوسع الفجوة الموجودة بالفعل بين الأغنياء والفقراء.

يجب سن مجموعة من القوانين التي تعظم الاستفادة من تلك التقنيات مع مراعاة الأخلاق العلمية. لا يمكن أبداً الوقوف أمام قطار العلم. ومؤخراً شهدنا فعلاً محاولات صينية نجحت في تعديل توأم لمنع إصابته بمرض الإيدز رغم ولادته لأبوين يعانيان هذا المرض.

الفوائد المحتملة لتلك التقنية هائلة والمخاوف الأخلاقية منها مبررة، لكن يجب علينا مواجهة تلك المخاوف، ووضع قواعد دولية صارمة تنظم استخدام تلك التقنيات بما يعود بالخير على البشرية ويمنع التلاعب بتقنية تحرير الجينات.

• بالحديث عن السرطان.. هل لديك نصائح للوقاية من الإصابة بالأورام؟

هناك عوامل كثيرة يمكن أن تؤدي للإصابة بالأورام السرطانية؛ بعضها كالوراثة لا يمكن تجنبه أما البعض الآخر فيمكن بسهولة الابتعاد عنه.

قبل 5 أعوام، نشر «المعهد الألماني للسرطان» مقالة علمية يحذر فيها من الإفراط في تناول لحوم الأبقار وألبانها، لأن أكل اللحم يسبب التهابات مزمنة تؤدي للإصابة بمجموعة واسعة من الأورام السرطانية من ضمنها سرطان المعدة والقولون والبنكرياس، وهي سرطانات قاتلة في أغلب الأحيان، لذا فإن الابتعاد عن تناول اللحوم يخفض احتمالية الإصابة بالسرطان.

وهناك أيضاً النصائح التقليدية التي تشمل الابتعاد عن التلوث والإقلاع عن التدخين وممارسة الرياضة بانتظام.

• كيف أثرت جائزة نوبل في مستقبلك العلمي والشخصي؟

حين تلقيت خبر الفوز بالجائزة كنت في مكتبي، وللمصادفة كنت أكتب مقالاً عن تمويل البحث العلمي. حين أعلن خبر فوزي بالجائزة انهالت على معملي الأموال المخصصة للبحث، ما ساهم في تسريع وتيرة اكتشافات أخرى تتعلق بالعوامل المعدية (الفيروسات والبكتيريا) التي يمكن أن تسبب السرطان.

على المستوى الشخصي، تلقيت العديد من الدعوات للسفر إلى الخارج وحضور المؤتمرات، أصبح وقتي مشغولاً للغاية، حاولت خلال تلك المؤتمرات نقل خبراتي المتعلقة بالفيروسات إلى الباحثين.

وبالطبع، أدى فوزي بجائزة نوبل إلى زيادة الوعي بالدور الذي تلعبه الفيروسات في الإصابة بالسرطان.

• هل ترى أن تمويل البحث العلمي كافٍ؟

بالطبع لا.. إذا ما قورن بتمويل الحروب.

يفقد العالم مئات المليارات من الدولارات سنوياً في شن هجمات على بعضه البعض. وإذا ما وجهت تلك الأموال للبحث العلمي أو حتى لإطعام الفقراء وتوفير مساكن ملائمة لهم، فلن يبقى فقير على سطح الكوكب.

يعيش نحو ثلث سكان العالم دون مياه نظيفة، ويعاني شخص من كل 6 أشخاص خطر الإصابة بالسرطان، ورغم ذلك يفضل البعض الدمار على إنقاذ البشر.

• عشت طفولتك إبان الحرب العالمية الثانية.. كيف أثرت تلك النشأة المبكرة في تكوينك كعالم وباحث وإنسان؟

أصبحت أمقت الغباء البشري الذي يدفعنا للاقتتال. تعرضت مدينتي لقصف مكثف أثناء الحرب العالمية الثانية، ولحسن الحظ نجا جميع أفراد عائلتي لكن دُمرت موارد المدينة ومنشآتها، واستهلكت ثرواتها بعد ذلك في عملية إعادة البناء.

أصبحت أقدس الحياة البشرية وتعلمت أن لا شيء يفوقها أهمية. منذ طفولتي المبكرة رغبت أن أصبح عالماً لأساعد البشر على تخطي المعاناة. ولحسن حظي حققت أملي وأصبحت طبيباً، ما ولّد لدي هذا الدافع هو الحرب البشعة والمعاناة التي نجمت عنها.

• دعنا نتخيل أن مهمة إنقاذ العالم أوكلت إليك مع صلاحيات هائلة تمكنك من فعل ما ترغبه.. ماذا سيكون قرارك الأول؟

تفكيك آلالات الحرب وتوجيه الأموال للقضاء على الفقر والارتقاء بالبحث العلمي.

• هل هناك مخاطر مستقبلية قد يجلبها التقدم العلمي؟

العلم سلاح ذو حدين يمكن استخدامه لتعظيم حياة الإنسان أو القضاء عليها. هناك مخاطر بالطبع لا يمكن إنكارها، بعضها يتعلق بتقنيات التعديل الجيني والآخر يتعلق بتصميم أدوية باهظة الثمن لا يمكن أن يحصل عليها الفقراء، الأمر الذي يعطي الأغنياء فرصاً أفضل في الحياة.

تلك هي طبيعة الأمور للأسف.. نأمل أن تجتمع الهيئات البحثية في شتى أنحاء العالم لإصدار قرارات تتعلق بالجوانب الأخلاقية للعلم، مع إلزام كل الشركات الربحية والمؤسسات الرأسمالية التي تتعامل في المجال البحثي بتلك القرارات.

فيما يتعلق بالدواء، أنا لست ضد تحقيق الأرباح بالطبع، لكن إذا مضينا في ذلك الطريق، فسيصعب على الفقراء مداواة أنفسهم في المستقبل القريب، لذا يجب على الحكومات تمويل الأبحاث بأموال حكومية لابتكار أدوية «عامة» يمكن أن يحصل عليها القاصي والداني بسعر زهيد.

سيطرة المؤسسات الربحية على أبحاث الدواء كارثة عامة يجب أن يستفيق منها العالم قبل فوات الأوان.

• ما هي نصيحتك للشباب الباحثين في المنطقة العربية؟

فتشوا عن الحرية.. ابتعدوا عن المناخ المسموم..اتبعوا شغفكم.. ولا تعملوا إلا فيما تحبون.