الرؤية

لم تكن «هيام زكريا، السورية الهاربة من جحيم الموت في بلدها» تعلم أن بطاقة الحماية المؤقتة التركية «الكيملِك» التي سعدت بالحصول عليها ستكون سبباً لموتها وتيتّم رضيعها بعد إصابته بكسور وحروق متعددة.

وبدأت مأساة الشابة، المقيمة في مدينة بورصة، في شمال غرب تركيا، حين تقدمت بطلب «إذن سفر» من إدارة الهجرة لزيارة والديها في مدينة غازي عنتاب، الواقعة في منطقة الأناضول في جنوب شرق البلاد، وهو إجراء مفروض على كل سوري يحمل بطاقة «الكيملك» حين يحتاج التنقل بين مدينة تركية وأخرى، وكحال أغلب المتقدمين قوبل طلب هيام بالرفض مرة إثر مرة رغم تسديدها الرسوم المالية التي لا تردّ عند الرفض.

وحين يئست من نيل الموافقة للزيارة الاضطرارية إلى أهلها، اتجهت هيام للبديل الوحيد: سيارات خاصة تهرّب السوريين بين مدن تركيا عبر طرق فرعية لا تخلو من وعورة وخطورة. لكن السيارة الهاربة من الدوريات اصطدمت هذه المرّة بشاحنة في حادث أودى بحياة الأم وسبّب إصابات للطفل.

وفي غازي عنتاب، لم يكن حظ السوريّة الخمسينية «شهيرة.س» أفضل حالاً، إذ توفيت متأثرة بمضاعفات مرضها بعد تعذر نقلها إلى أي مستشفى إثر تعليمات صارمة للمنشآت الصحية بمنع استقبال اللاجئين المخالفين «ممن لا يحملون بطاقة الكيملِك»، ما اضطرها للاستعانة بأطباء سوريين لاجئين لمعالجتها رغم عدم امتلاكهم المعدات الطبية اللازمة، ثم اهتدى ذووها بعد رحلة بحث طويلة إلى مستشفى خاص قبل إدخالها باسم مستعار مقابل مبلغ كبير، لكن تفاقم حالتها الصحية وتأخر حصولها على الرعاية الطبية المطلوبة أوديا بحياتها.

وقال أبناؤها إنهم وأمهم ضحايا إيقاف سلطات المدينة تسوية أوضاع المخالفين الفارين من سورية وحرمانهم من الحصول على بطاقة الحماية المؤقتة لشهور طويلة، بناء على أمر من الوالي، ما كلّف أمهم حياتها.

رشاوى اضطرارية

أخبار ذات صلة

عبدالفتاح البرهان: لا نقبل المساعدات المشروطة وعلاقتنا مع إسرائيل لم تنقطع
سقوط طائرة مقاتلة مصرية أثناء تنفيذ إحدى الأنشطة التدريبية


وأكد سوريون مقيمون في تركيا لـ«الرؤية» أن فاجعتي هيام وشهيرة ليستا إلا نموذجين من حوادث متكررة سببها الأساسي مجموعة قوانين وقرارات تركية مفروضة على اللاجئ السوري الذي ما زال محروماً رسمياً من صفة «اللاجئ».

وأشاروا إلى معاناة نحو 3.5 مليون سوري حاصلين على الحماية المؤقتة من مشاكل كبيرة بطعم الذلّ نتيجة القوانين التركية ومزاجية واستنسابية تطبيقها التي أدّت إلى نتائج سلبية للغاية تدرّجت بين فقدان عمل بعضهم، وتشتيت شمل عائلات، وترحيل آخرين إلى سوريا، وخسارة أرواح البعض.

وأصدرت تركيا قانون «الأجانب والحماية المؤقتة» عام 2014 لتنظيم وجود السوريين اللاجئين، الذي يتضمن فعلياً تسجيل معلومات عن كل شخص، ورصد مكان إقامته وتحركاته، ومنحتهم بطاقة الحماية المؤقتة «الكيملك»، ثم أصدرت قرارات تنفيذية متعددة ومتغيرة للقانون تقيّد حركة حامل البطاقة وتقنّنها.

سيستم يوك

تطرق المحامي «زاهر.ب» إلى مشكلة مستعصية تواجه حملة الكيملك، هي ضرورة تحديث بياناتهم عند إدارة الهجرة كل سنتين تقريباً، الأمر الذي يتم حصراً بالحضور الشخصي لأفراد العائلة، ما يسبب ازدحاما كبيرا أمام مراكز الهجرة، ويتعرض خلاله السوريون لإهانات متعددة ليس أقلّها الوقوف والانتظار الطويلان.

وتفاقمت الأزمة عندما أتاحت السلطات التركية موقعاً إلكترونياً لأخذ موعد لتحديث البيانات، لأن الموقع كثيراً ما يتوقف عن العمل، وحين يراجع اللاجئون إدارة الهجرة، يكتفي الموظف بالرد: «سيستم يوك»، أي أن الموقع متعطل حالياً، ما يضطرهم للحصول على موعد عبر رشاوى تدفع للسماسرة، وتذهب إلى جيوب الموظفين والمدراء في دوائر الهجرة.

واستطرد زاهر: «استفادت الحكومة التركية من مساعدات الاتحاد الأوروبي ومفوضية اللاجئين في توظيف آلاف الأتراك العاطلين عن العمل بحجة تخديمهم للسوريين، وحجم الموظفين الجدد أكبر بكثير من الحاجة لمعاملات السوريين الرسمية الاعتيادية، لذلك أصبح تحديث البيانات المتكرر مبرراً لتوظيف العدد الكبير من الأتراك وتحويل المساعدات المخصصة للسوريين إلى رواتب للموظفين الأتراك، ليتحول الأمر إلى عبء إضافي على السوري».

جريمة بغطاء قانوني

«هاني.ع، خيّاط سوري ثلاثينيّ متزوج وعنده طفلان» حصل على كيملك من مدينة مرسين، ما يمنعه من الإقامة خارجها، لكن قلة فرص العمل في المدينة أجبرته على الانتقال مع أسرته عبر طرق التهريب إلى إسطنبول، وعمل فيها 3 أعوام تحت رحمة الجولات التفتيشية المفاجئة التي كانت قليلة في البداية، لكن الأمر ساء مع خسارة الحزب الحاكم لانتخابات بلدية اسطنبول، حيث صدر قرار فوري وحازم بترحيل السوريين إلى الولايات التي أصدروا الكيملك منها.

وقال هاني: «لا أدري إن كان التزايد القليل لأعدادنا بالمدينة الكبيرة سبباً لتراجع حزب أردوغان (العدالة والتنمية)، أم أننا تحولنا إلى شماعة مثالية للخسارة كي لا يعترف مسؤولو الحزب الحاكم بفشلهم في ملفات اجتماعية واقتصادية داخلية، لكن النتيجة كانت بكل الأحوال تضييقاً غير إنساني على وجودنا للتصالح مع ناخبيهم على حسابنا».

وأضاف: «حاولت نقل الكيملك لكن النقل ممنوع إلى إسطنبول، وحاولت الحصول على إذن عمل مرتين هناك وجاء الرد بالرفض، فاضطررت للانتقال إلى مرسين، وبعت أثاث بيتي بسعر زهيد، وها أنا اليوم في مرسين منذ عام دون عمل ثابت، وطردت من بيتي لعدم قدرتي على تسديد الإيجار وأقيم مع عائلتي بمنزل أخي المؤلف من غرفة وصالة».

واعتبر هاني أن ما حصل له تدمير لحياته التي استطاع بناء أساس لها بصعوبة بالغة بعد مغادرته بلده، وقال: «لم يقدم لنا الأتراك أي مساعدات للحصول على فرص العمل، وبسبب حساباتهم السياسية تم ترحلينا الإلزامي دون أخذ أوضاعنا المعيشية بعين الاعتبار، ما تعرضنا له هو جريمة إنسانية بغطاء قانوني».

ترحيل 8000

وأضاف هاني أن حملة ترحيل السوريين التي كان أحد ضحاياها لم تقتصر على إرسالهم إلى الولايات التي أصدروا منها الكيملك، إنما تعدتها إلى إرسال أكثر من 8000 شخص إلى داخل الأراضي السورية، في مخالفة صريحة للقوانين الدولية وقانون الحماية المؤقتة التركي.

أحد هؤلاء المرحَّلين هو الشاب «هشام مصطفى» الذي يحمل بطاقة حماية مؤقتة صادرة عن إسطنبول، لكن إحدى دوريات الشرطة التركية قررت ترحيله أثناء حملتها دون أي مسوّغ، لترسله إلى الأراضي بعيداً عن زوجته وأطفاله الثلاثة، حاول هشام العودة إلى تركيا عن طريق أحد المهرّبين للالتحاق بعائلته، لكن رصاص حرس الحدود التركي كان أسرع بالوصول إليه، ليُقتَل هشام من قبل الدولة التي حصل على حمايتها المؤقتة.