بلال الصباح

عادة ما تكون متابعة الانتخابات الأمريكية في الشرق الأوسط مقتصرة على الأوساط السياسية، من أجل فهم رؤية الرئيس الأمريكي الجديد وسياسة بلاده الخارجية تجاه القضايا العربية، بينما هذه هي المرة الأولى التي اشتد تأثيرها إلى كافة الأطياف الشعبية العربية.

فالتنافر العربي على وسائل التواصل الاجتماعي ما بين مدافعٍ عن صلابة الرئيس دونالد ترامب ومتفائلٍ بشرق أوسط جديد يقوده جو بايدن، يرجع للرئيس ترامب الذي أزاح الستار عن الأحزاب الأمريكية وأظهرها بصورتها غير المستقلة وتبعيتها للمدارس الفكرية العابرة للقارات.

فالفصائل الفلسطينية «على سبيل المثال»، مالت كفتها لصالح المرشح بايدن بسبب تعاطفه مع المهاجرين من غير الأوروبيين، والذين تعتبرهم السلطة الفلسطينية ورقتهم الرابحة في أمريكا، بينما أظهر الكثير من العرب تأييدهم للرئيس ترامب لاعتباره الجندي الأول ضد تسييس القضايا العربية بما يخدم اليسارية العالمية خوفاً من تكوين نواة لحركة عمالية شيوعية بثوبها المُطرز بفتاوى الإسلام السياسي.

إن ما يستحق إثارته هنا، هو أن دخول ثلاثة فلسطينيين للكونغرس الأمريكي لتمثيل المهاجرين الأفارقة والآسيويين على أكبر منصة برلمانية عالمية، والرئيس ترامب الذي اضطر لدعوة أنصاره بالتوجه نحو المسيرة المليونية في شوارع واشنطن، هو أمر له الكثير من المعاني ذات المؤشرات بعيدة المدى.

أخبار ذات صلة

«تحدٍّ أسرع من الصوت».. فرص المواجهة العسكرية بين أمريكا والصين
توقعات بخسارة ماكرون للأغلبية البرلمانية.. واليمين الفرنسي يصف الاختراق بـ«تسونامي»

حيث نكتفي هنا بالإشارة إلى مؤشر واحد فقط، وهو أن العلاقة بين منظومة الإسلام السياسي في الشرق الأوسط واليسار الديمقراطي في أمريكا أصبحت هي الأقوى على الساحة الإعلامية والسياسية، ما جعلهم أمتن من ثوابت اليمين المحافظ على منصات القانون، وهو سبب توجه ترامب للشعبوية لإثبات شرعيته أمام العالم.

اختراق يساري

إن الصراعات البشرية ليست وليدة واقعنا الذي ترعاه الأمم المتحدة، بل هي منذ الخلق الأول وباقية إلى نهاية العالم؛ فما قبل نشأة المجتمع الدولي الجديد كان هناك توافقٌ واضحٌ على «المسميات القتالية»، من حيث وضوح أسباب القتال، والوسائل المستخدمة في الحروب هي أدوات القتل المباشر المُفضي للموت.

بينما الحروب التي نعيشها اليوم هي نتاج عدم التوافق حول الغايات السياسية للتطبيقات العملية لحفظ الأمن والسلم العالميين ما بين الشرق الآسيوي بالتحالف مع موسكو والغرب البريطاني الأمريكي، حيث الجميع يعتقد أنه يحارب ويقتل لضبط الأمن والسلم الدوليين.

هذا التباين له العديد من الأسباب، أهمها هو أن اليسارية النشطة اخترقت الكثير من المؤسسات الثقافية والإعلامية في المنطقة العربية وإفريقيا وغيرها من دول العالم، لإعادة شرح المواد القانونية لكافة المواثيق الدولية الخاصة بالأمن والسلم الدوليين وفق المنظور اليساري المعادي لليمين المحافظ عربياً وغربياً.

حيث حصرت جميع الندوات والمحاضرات والمؤتمرات الباحثة في الشؤون الدولية والحقوقية مصطلح السلام العالمي بالحربين العالميتين الأولى والثانية، وأظهرته بالصورة الاستعمارية «الإمبريالية» للحفاظ على الانتصارات الغربية بعد الإبادة البشرية في اليابان.

والسؤال المطروح.. ما هو موقف اليسار الديمقراطي في أمريكا من التكتلات الدولية التي تطالب بإعادة تعريف السلام العالمي كتحالف بريكس الذي يضم (روسيا، الصين، الهند، جنوب إفريقيا، البرازيل) لتمثيل القوى الناشئة بعيداً عن هيمنة القوى الغربية، وتحالف ايبسا الذي يضم (الهند، جنوب إفريقيا، البرازيل) للحصول على مقاعد دائمة بمجلس الأمن الدولي لتمثيل دول الجنوب العالمي في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وآسيا.

تحديات جديدة

إن العقول البشرية تتطور بما يتناسب مع المعطيات العصرية، وعادة ما يتلقاها الفكر اليساري بمناهجه المتطورة وفق الاحتياجات الشبابية، في حين ما زال الغرب الأوروبي يحصر شرحه للأمن والسلم الدوليين بالمواد القانونية المكتوبة بخط اليد منذ عام 1947، الجافة والفاقدة للروح العملية، دون مراعاة للتطورات الفكرية العالمية وخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا.

وعلى الرغم أن «الحريات الشخصية» أو «حقوق الإنسان» أُشبعت شرحاً وتطبيقاً، إلا أن الخط الزمني للمنظومة الدولية ما زال متوقفاً عند الإنسان ومطالبه كما كان في أربعينيات القرن الماضي، متجاهلة التحديات الجديدة القائمة على المنظومة المُستحدثة، وهي «الحريات السياسية» القائمة على تخريب ضوابط الأمن والسلم الدوليين عبر دعوات الكراهية للأنظمة السياسية المحافظة على حدودها السياسية والإقليمية.

إن منهجهم ينطلق من المطالبة بالإفراج عن العابثين بالأوطان عبر التشكيك بالقوانين المحلية والدولية، بالإضافة إلى ربط القضايا الانفصالية والنزاعات الثنائية والقبلية بالأمن والسلم العالميين، ما زعزع المنظومة الدولية في عقول الشباب وأرهقها.

البعض متفائل بأن يكرر بايدن سياسات لأوباما على هواهم. (رويترز)

صورة منقوصة

ربما كان من الخطأ حصر مفهوم السلام العالمي بالحروب العالمية فقط؛ فالصورة منقوصة لو نظرنا للجانب الآخر من جنوب الكرة الأرضية، حيث كانت الصراعات الأوروبية في إفريقيا والهند من أجل الاستحواذ على الموارد الطبيعية لتصنيعها وتقديمها للبشرية دون التمييز للون أو عرق أو دين، وليس لاحتكارها للأوروبيين فقط كما يرى اليساريون والإسلاميون.

لذلك كان لا بد من إعادة تعريف مصطلح السلام من جديد، والذي يمكن تسميته بأداة حرب لم تعرفها البشرية من قبل، فحرب السلام التي نخوضها اليوم تمنع قتل العدو المفضي للموت، بل تحافظ عليه وتعمل على تغذيته وتنميته وتطويره، لتحقيق المنافع المتبادلة بين الفريقين المتحاربين، والانتصار يكون بالاستحواذ على الذكاء العملي والصناعي وليس بإراقة الدماء.

وهو ما يرفضه اليساريون والإسلاميون لعجزهم عن خوض حرب المواجهات العلمية المتطورة، لذلك دائماً ما يطالب اليسار المتطرف بإعادة توزيع الثروة الغربية، ويساندهم الإسلام السياسي الذي يطالب بإعادة توزيع الغنائم بعد تدمير الحدود السياسية بين الدول العربية والعالم أجمع.



مقارنة بين منظومتين

إن منظومة «الأمن والسلم» العالميين التي تبناها المجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، أشبه وصف لها أنها قد تجزأت إلى منظومتين، لكل واحدة أفضلية على الأخرى وفق برامج الديمقراطيين والجمهوريين. فمن خلال المقارنة بين فترتي الرئيسين أوباما وترامب، حيث عمل أوباما على تفضيل السلام مع إيران والإسلام السياسي على منظومة الأمن القومي العربي، في حين حرص ترامب على ضبط الأمن العربي كجزء من الأمن العالمي وتقديمه على السلام.

أوباما كان له تقييم مختلف عن ترامب للأمن القومي العربي. (أ ب)

فالأمن القومي العربي الذي ضبطه الرئيس ترامب في العراق وسوريا ومصر بما لا يضر أمن الخليج العربي والقرن الإفريقي، كان لا بد أن يكون مقروناً بأمن إسرائيل الدائم من خلال دمجها بالتطبيع العربي، وهذا الذي لا يروق للكثير من الفلسطينيين، ولكن هم أول من صفق بحرارة للسلام بين اليسارية المتطرفة والإسلام السياسي في إيران وتركيا، دون أدنى اعتبار منهم بأن سقوط الأمن القومي العربي هو نهاية حلم أن تكون القدس عاصمتهم الأبدية.

الانتباه المطلوب

فما هو مطلوب عربياً هو الانتباه للصراع الحاصل في الولايات المتحدة الأمريكية على الجانب الفكري «أكثر منه السياسي» العابر للقارات، وقد تكون هذه الفرصة الأفضل لتنمية قدراتنا العربية، ولأول مرة في التاريخ الحديث، للاستحواذ على إعادة شرح المنظومة الدولية بكافة قوانينها وتغذيتها بمفاهيم التعايش بين جميع الشعوب والأديان بعد تنقيتها من الشوائب الاصطلاحية المتطرفة الفكرية.

فالحدود السياسية «على سبيل المثال»، وفق شرح وتفسير المنظومة الدولية القديمة، بأنها لمنع الاعتداء على سيادة الدول الأعضاء في المجتمع الدولي. بينما يمكن تفسيرها اليوم بما يتناسب مع تطور العقل الإنساني ونهضته العلمية والعمرانية، والقول إن الحدود السياسية أصبحت اليوم بمثابة الحواضن السياسية للمؤشرات التنموية، وهو الأفضل لتجديد القوانين الدولية من خلال خلق سياسة تفضيل الدول على بعضها بمعايير التقدم والازدهار، وهو ما سوف يحفظ هذه المنظومة من الانهيار والاندثار بجفاف شروحاتها القديمة، فما يراه جيل اليوم ليس هو ما كان يراه جيل الأمس.

فما أحوجنا اليوم لنفخ روح البصيرة والتنوير الفكري من جديد في المنظومة الدولية، فما يجري اليوم على الساحة الأمريكية وانفصال مفهوم الأمن العالمي عن تطبيقات السلم الدولي سوف يكون له تأثيراته السلبية على الساحة العربية والقرن الإفريقي لعقود قادمة.

حيث نحن اليوم على ساحة صراع جديد قد تنشط فيها القوى اليسارية والإسلامية الداعية للسلام مع إيران وتركيا على حساب تخريب الأمن القومي العربي وفق رؤية اليسار العالمي ضد القوى العربية التي أقرت بالتطبيع مع إسرائيل كجزء من الأمن القومي العربي، وليس ضده أو فوقه.